تقارير وتحقيقات

صورة مقربة عن الجفاف بلحج …

لحج الغد – تقرير / أنسام عبدالله

منذ أن بدأت الاتجاه نحو الصحافة البيئية في السنتين الأخيرتين من مشواري الصحفي وأنا استشعر خطر محدق لا يأبه له الكثير من الناس في بلادنا لا سيما المسؤولين ، إذ يعتبر الناس ذلك في أغلب الأحيان مجرد أثر من آثار الحرب ولا يدركون حجم الخطر البيئي المحدق نتيجة التأثير المباشر للتغيرات المناخية في بلادنا . فعلى الرغم من أن نصف البنية التحتية للمؤسسات الحكومية ببلادنا قد تعطلت ، إلا أن التغيرات المناخية أيضا ألقت بظلالها علينا، رغم أننا غير مشاركين في أسبابه كبلد بل متأثرين بدرجة كبيرة ومباشرة .

جلسة مناخية

في فناء منزل جارتنا “منى” وهي نازحة من منطقة الحد بيافع تتجمع الفتيات في جلسة عصرية لقضاء أوقات جميلة معتادة برفقة المأكولات التقليدية والشاي العدني ..ومما زاد جمال الجلسة هو إطلالة الفناء على حديقة منزلية رائعة بالمنزل أضفت جوا من الراحة والبهجة، عقب نهار ملتهب كعادة الصيف في لحج في السنوات الأخيرة .

بدأنا تجاذب أطراف الحديث عن سبب نزوح منى وعائلتها من يافع ..حيث قالت :
لدينا في يافع بيت كبير مكون من ثلاثة أدوار كان قد انتهى أبي من بناءه وتجهيزه بأجمل الآثاث عند عودته من السعودية بغرض الاستقرار النهائي ..إلا أن الأمور لم تسر وفق ما أراد ..فبسبب استمرار موجة الجفاف ونضوب مياه الآبار الجوفية هناك، أصبح توفير المياه حلم كبير ومشكلة أكبر يصعب حلها ، إذ ارتفع سعر ” البوزة” إلى ما يقارب 70 الف ريال..وهنا استغربت بقية الحاضرات من الرقم متسائلات ألهذه الدرجة الأمر صعب، أجابت منى نعم للأسف ، وفي بعض المناطق لا يستطيع الناس توفيرها وبالتالي يفقدون مواشيهم وأراضيهم الزراعية، والميسورين أمثالنا ينزحون إلى مناطق قريبة في لحج مثل الحوطة وتبن، وعدن، وذلك لتوفر المياه .

1746435920511

يقول المهندس الزراعي معاذ محمد : لقد فشلت جميع المشاريع الإسعافية في يافع والمتمثلة بحفر وتعميق الآبار، إذ أن هذا الخطأ مايزال تكراره مستمر منذ العام 2019، وذلك لأن الآبار جافة أصلا . مؤكدا أن الحل هو إقامة سدود وحواجز مائية ضخمة لحجز مياه الأمطار وبالتالي تغذية مياه الآبار، كون المنطقة جبلية وشديدة الإنحدار وبالتالي تذهب سيولها هباءا .

كما أضاف أنه في مناطق مثل رصد وسرار مازال المواطنون الفقراء يعلقون الأمل على المشروع الموعود لخزانات حصاد مياه الأمطار . إذ يمثل هذا المشروع ضرورة ملحة وسط ما يعانيه من جفاف حاد يهدد مناطق شاسعة منها .

كما أشار المهندس الزراعي “صالح السنيدي” إلى إمكانية وجود حلول مثلى لتدارك العواقب الوخيمة للجفاف في يافع، إذ طالب بتأهيل المناجل والبرك والهجر الأثرية المنتشرة في بيافع مع الإحتفاظ بطابعها الإنشائي القديم . بالإضافة إلى إنشاء الحواجز المائية بمعايير هندسية تتناسب وطبيعة المناطق .

Screenshot ٢٠٢٥٠٥٠٥ ٠٦٣٣٢٤

الماء الثمين

وبالعودة إلى أجواء جلسة العصر “المناخية” تدخلت روان من مديرية تبن قرية “المحلة” وهي القرية التي تستضيف آلآف النازحين من شتى مناطق اليمن سواء نزوح بسبب الحرب أو نزوح مناخي .

تقول روان أنها تتذكر في طفولتها كيف أن والدتها كانت تصرخ عليها عند تركها “الرشاشة” مفتوحة عقب الإستحمام وذلك لشدة تدفق المياه ..حيث كانت المياه تأتي إلى بيتنا من “المشروع ” الحكومي يوميا وبانتظام ..كنا لا نشعر أن سيأتي يوم وسنشتري الخزان الواحد سعة 1000 لتر ب 4500 ريال، وهنا لمعة عينيها بدمعة للحظة وسكتت، وشعرت بقية البنات بهذا ..فتساءلن مواسيات ..ماذا حدث ؟!

قالت روان ..أتذكر في السنة الفائتة في مثل هذه الأيام بفصل الصيف وأظنكم تتذكرون كيف كان ارتفاع درجة الحرارة شديد ، قمت في الصباح لأنجز بعض الأعمال المنزلية المعتادة ، وإذا بي أسمع صوت حشرجة آتية من غرفة أبي، ذهبت مسرعة وإذا بي أجد أبي يتنفس بصعوبة فقد كان مريض سكر وقلب، وكانت الكهرباء طيلة الليلة الماضية منقطعة وقد نفدت البطارية وتوقفت “مروحة الشحن” لكننا لم ننتبه ..ركضت مسرعة انادي أخي من بيته القريب لحمل أبي حتى الفناء ، حيث كان الموقف صعب أيضا بسبب عدم وجود ماء كافي في البيت فقد كنا قد كلمنا جارنا سمير أن يحضر لنا خزان ماء ضروري لكنه تأخر ليومين نتيجة تزايد طلبات الناس بسبب تعطل شبكة المياه العامة، لذا ركضت مسرعة إلى بيت جارتنا وطلبت منها “ماء” وأنا أبكي لأجل حال أبي ..أحضرت الماء بسرعة وبدأ أخي يغسل أبي ببعض الماء من فوق رأسه حتى يغمر كل جسمه، وأنا أساعده ..إذ أن أبي لا يقوى على التحرك بصورة طبيعية نظرا لزيادة وزنه ومرضه ..

تقول روان هنا شعرت أننا في كارثة حقيقية لأول مرة في حياتي، وهي كارثة انعدام الماء، وقلت ماذا لو رفضت جارتنا إعطائي الماء حينها، أو بالأصح ماذا لو تضاعف سعر الخزان الماء وازداد الجفاف ونضوب المياه، اليوم نستطيع شراء المياه ! غدا.. إذا تضاعفت قيمتها، في ظل هذا الغلاء الفاحش وضآلة قيمة المرتبات ، ثم تستطرد ضاحكة بقلق ..هل سنموت من العطش حينها ؟!
Screenshot ٢٠٢٥٠٥٠٥ ١٣٢٠٣٦

تحذيرات مستمرة

وفي ذات الموضوع حذرت المؤسسة العامة للمياه والصرف الصحي بلحج من تناقص الطاقة الإنتاجية لحقل “مغرس ناجي” للمياه إذ أن 16 بئر تابعة للحقل تغورت بسبب تزايد الحفر العشوائي بالقرب من منطقة الحقل ، بالإضافة إلى الربط العشوائي للري بالقرب من مصادر المياه، الأمر الذي يتطلب تغيير مسارات الضخ من الآبار إلى الخزان المركزي .

كما أشارت تقارير للأمم المتحدة أن مشكلة شحة المياه تعم اليمن إذ أن مانسبته 90% من المياه الجوفية يستخدم للزراعة ، وهذا بحد ذاته مؤشر مخيف للجفاف المتسارع .

كل ذلك يأتي في ظل تزايد ارتفاع درجة الحرارة في اليمن التي من المتوقع أن ترتفع من 1.4 إلى 2.8 درجة مئوية بحلول عام 2050 ، كما يتوقع زيادة الظواهر المناخية المتطرفة كالفيضانات والأعاصير والجفاف مما سيؤثر بشكل سلبي على المخزون الجوفي ويفاقم مشكلة شحة المياه .

دلتا تبن مهددة

وفيما يخص دلتا تبن على وجه الخصوص أشارت دراسة للأمم المتحدة أن المنطقة السفلى من دلتا تبن عانت من عجز مائي قدره 84 مليون كيلو متر مربع في العام 2023 م ، كما تشير الدراسة إلى أن العجز سيتضاعف إلى أن يصل إلى 400 مليون متر مكعب بحلول 2100 م، كما أكد مركز دراسات محلي تلوث بعض آبار ” حقل مياه بئر ناصر ” بتبن بفعل رمي المخلفات بجانبه .

الري بالتنقيط والإستدامة

من جهتها “أم منى” وهي معلمة متقاعدة شاركت قائلة ..عندما أتينا إلى لحج من يافع أصبحنا نقدر المياه بشكل كبير وهذه الحديقة المنزلية التي ترونها أمامكم أنا من زرعها، ولازلت أحافظ عليها بنفسي، مع العلم أني لا أسرف بالمياه عند ريها، حيث أني أستخدم خرطوم مياه به ثقوب صغيرة ، وهي طريقة جميلة في الري نستخدمها منذ زمن لأن الري بمياه كثيرة “يحرق” الشجرة ، بالإضافة إلى أني استخدم سماد عضوي من بقايا ومخلفات الماشية.. كما وجهت كلامها إلى الفتيات الحاضرات إلى الترشيد في استخدام المياه، والإستفادة من مخلفات مياه المطبخ في استزراع محاصيل منزلية للإستفادة من المياه المهدرة هذه، وأيضا التخفيف من درجة الحرارة في منازلنا بالأشجار كظلال وثمار .
Screenshot ٢٠٢٥٠٥٠٥ ١٣٣٣٤٩
فيما أكدت الدكتورة زكية الولي أن تأثيرات التغيرات المناخية بارتفاع درجة الحرارة تطال المرأة بالدرجة الأولى كونها الحلقة الأضعف بيولوجيا واجتماعيا، إذ أن صحة المرأة الإنجابية على وجه الخصوص تتأثر بارتفاع درجة الحرارة على الرغم كونها أكثر تحملا من الرجل، إلا أنه وفي درجات حرارة عالية تصاب المرأة بأعراض الهبوط الحاد في السكر وضغط الدم، مما يزيد من أعباءها خصوصا أنها تتحمل أعباء توفير جلب المياه من أماكن بعيده في غالب المناطق الريفية باليمن، بالإضافة إلى التأثير المباشر لارتفاع درجة الحرارة على البويضات إذ أنها تفسد ، بالإضافة إلى تأثر الأجنة نتيجة احترار جسم الأم الحامل مما يسبب مضاعفات خطيرة للجنين ، عدا عن مشاكل الشعر والبشرة .

وفي دراسة بجامعة صنعاء أجراها الدكتور عبدالكريم محمد المجاهد و “الدكتور عبدالله محمد يايه” عن تأثير أنظمة الري على محصول الطماطم في منطقة حوض صنعاء، حيث نفذ البحث بمزرعة الكلية التعليمية بجامعة صنعاء ..والذي كانت نتائجه 100% لصالح كفاءة إنتاجية المحصول بطرق التنقيط والتي تعتبر أقل استهلاك مائي .
Screenshot ٢٠٢٥٠٥٠٥ ٠٧٠٥٤٤
فطريقة التنقيط أثبتت كفاءتها لذا أصبح لزاما إنشاء شبكات ري متكاملة تعتمد عليها كونها أقل تكلفة وأكثر جودة في الإنتاجية واستهلاك الماء . كما يجب الاستفادة القصوى من مشروع ” تعزيز المرونة الاقتصادية والمؤسسية الممول من الاتحاد الأوروبي في جميع أنحاء اليمن مع السلطات المحلية ، والذي حقق نتائج طيبة إلى الآن .

.

توصيات عاجلة

وختامها مسك ..عرضت على المتحدثات في الجلسة المناخية الشيقة هذه الإدلاء بدلوهن للحد من ظاهرة شح المياه وتعزيز الوعي المجتمعي للحفاظ على ثروة المياه الثمينة التي قد لا تكون في متناولنا في السنوات القادمة ..وكانت توصياتهن كالتالي :

١- تمكين المرأة من المشاركة الفعالة في الحفاظ على الموارد المائية من خلال المشاركة في الندوات والورش وحتى صنع القرار، كما يجب إشراك المجتمعات المحلية النسوية في مشاريع زراعية صغيرة وتوسعتها، كون المرأة أكثر قربا وحرصا على الطبيعة، وبالتالي على المياه .

٢- إيقاف الحفر العشوائي للآبار، وعدم السماح إلا بتراخيص عند الضرورة القصوى، ومحاسبة من يخالف .

٣- إقامة الحواجز المائية والسدود، ومساعدة المزارعين بتقديم شبكات ري حديثة عامة تعتمد طريقة الرس بالتنقيط .

٤ـ تفعيل القوانين التي تنظم عمل الانتفاع بالمياه وفق لوائح ونظم محددة بحيث لا يتعارض مع حق الانتفاع العام وأن الماء ثروة يتشارك فيها الجميع .

٥ـ حماية الأحواض المائية الكبيرة من أي أعمال تضر بوجودها أو تستنزفها وتلوثها . وعدم رمي المخلفات بجانبها .

٦- تعزيز ثقافة الوعي البيئي بين الناس ، وتوضيح مدى الخطورة المحدقة بهذه البلاد إذا ما استمر عدم الإكتراث بنتائج البيانات الحديثة والتي تشير في مجملها إلى نضزوب المخزون الجوفي اليمني شيئا فشيئا، خصوصا أن مواردنا المائية غير متنوعة، بل تعتمد بالدرجة الأولى على المياه الجوفية .
٧- تفعيل الخطاب الديني الذي يحض على الترشيد باستهلاك المياه والحفاظ عليها لما له من أثر بالغ في نفوس العامة .