أخبار المحافظاتتقارير وتحقيقات

كان هناك شيءٌ اسمه معلم يمني ..

كيف للمعلمين أن يتحدثوا عن مآسيهم ومعاناتهم، إذا كان الانتحار أو عرض أجزاء من أجسادهم للبيع أو التخلص بالنار من أنفسهم ومن أسرهم لا يكفي سلطات الأمر الواقع حتى تعرف الحال المزرية والمهينة التي أوصلتهم إليها.
لم يعد الأمر حادثًا عابرًا يمكن لمجتمع من المجتمعات أن يشهده مرة في الدهر كانعكاس لحالة نفسية طارئة، وإنما أصبح ظاهرة مخيفة لها تداعياتها الكارثية التي تتحمل مسؤوليتها أولا وأخيرا سلطات الأمر الواقع هنا وهناك.

في عدن يتحدث العليمي بشيء من اللا مسؤولية أو حتى بالقليل من الخجل عن أن الرياض هي التي تكفلت طيلة السنوات السابقة بدفع مرتبات الموظفين الذين من بينهم المعلمون، في الوقت الذي لا تفتأ تظاهرات هؤلاء وإضراباتهم في المدن الخاضعة لسيطرة حكومته تتزايد يوما بعد آخر للمطالبة بحقوقهم.

لكن أيا تكن الحال في تلك المناطق، إلا أن إبداء المعلم احتجاجه قد يجعله على الأقل يشعر بأن صوته مازال حاضرا. أما في صنعاء فلا احتجاج ولا تظاهرات ولا شيء من ذلك الهامش المتاح قد يسمح للمعلم أن ينفس عن نفسه قليلا. بل لقد وصل إلى حالة من الموات تتكشف في صور مرعبة، كلها تفضي به إلى التخلص من حياته بطريقة أو أخرى، انتحارا حينا وموتا بالجوع حينا آخر، وصور أخرى لا تقل فداحة ولا ألما.

في ظرف يوم واحد تفصح الحالة البائسة التي وصل إليها المعلمون في اليمن عن حادثين مؤلمين: الأول معلم يعرض إحدى كليتيه للبيع، والثاني معلم يقدم على قتل زوجته وابنه ثم يطلق النار على نفسه منتحرا.

أما سجل السنوات والأشهر الماضية حافل بالكثير من تلك الحالات، ويكفي أدنى تعريج على المواقع الإخبارية حتى يعرف القارئ حجم الظاهرة التي أصبحت هي السائدة لدى المعلمين.
ثم بعد كل هذا تأتي حكومة صنعاء لتتحدث عن نصف راتب سيتم صرفه ابتداء من هذا العام للمعلمين وموظفي الدولة، وكأن نصف الراتب الذي رأت نفسها سخية جدا به هو الحل الذي سينقذ أولئك من براثن الجوع وينتشلهم من أوضاع اقتصادية بلغت حد الهوان. فما الذي لنصف الراتب أو للراتب بأكمله أن يفعله والحالة هذه؟

لكن تلك الحكومة كانت من الصلف والتبلد، بحيث لم تتوقف عند ذلك فحسب، بل لقد ارتأت أن نصف الراتب كبير جدا على أولئك فقسمتهم إلى فئتين (ب) و(ج)، الأولى تحصل على نصف راتب شهري والأخرى تحصل على نصف راتب ربعي، أي كل ثلاثة أشهر. بينما الفئة (أ) والتي ستحصل على راتبها كاملا، مخصصة بطبيعة الحال لوزير المالية بالدرجة الأولى ولأمثاله وباقي مسؤولي الدولة الكبار. فهؤلاء من التقشف بحيث أن كروشهم لا تتسع لأدنى شبهة.

وكالعادة جاء المعلمون والعاملون في سلك التربوي في صدارة الفئة (ج). باعتبارهم آخر ما يمكن أن تهتم له حكومة التغيير والبناء كما تطلق على نفسها. حيث هكذا يكون التغيير وهكذا يكون البناء.

وما بين تسول وتعري حكومة العليمي في أروقة الرياض وأسواق “عكاظ” الموسمية، لاستجداء منح وودائع أخرى، وبين صلف وتخلي حكومة صنعاء عن واجباتها، تستمر أعواد المشانق في حصد أرواح المعلمين، وقد نصبتها لهم سلطات الأمر الواقع في كل لحظة من لحظات حياتهم البائسة. بحيث لن يكون بعيدا ذلك اليوم الذي سيقال فيه: كان هناك شيءٌ اسمه معلم يمني.