سلاطين ومشايخ لحج والنواحي المحمية
(١) لحج والنواحي المحمية
- حدودها: جنوبًا ساحل البحر العربي، من باب المندب إلى بَلحاف بالقرب من التقاء الخطين الثامن والأربعين من الطول الشرقي والرابع عشر من العرض الشمالي. شرقًا حضرموت. غربًا البحر الأحمر. شمالًا البلاد التي يحكمها الإمام يحيى. وقد قلقلت جيوشه بعض الحدود القديمة بينه وبين أصحاب الحماية.
- مساحتها: نحو ألفين وخمسمائة ميل مربع.
- سكانها: نحو ثلاثمائة ألف نفس.
- أهم قبائلها: العَبَادِلة، واليَوَافِع، وآل فضل، والعوالق، والحواشب، والصُّبَّيحَة.
- أهم مدنها: شقره، والحوطه، وبلحاف على البحر العربي، ولحج، وأبين، وأنصاب، ومُسيمير، وحبان.
- مذاهبها: السنة: شوافع وحنفيون. الشيعة: جعفريون، وإسماعيليون، وزيديون. وفي عدن: اليهود، والهندوس، والنصارى. وفي القبائل داخل البلاد من لا يزالون على العادات الجاهلية لا يعرفون الإسلام.
(٢) الثالوث المادي في عدن
قال المستر لويد جورج مرة: إن المبدأ المرن في السياسة هو أصلح المبادئ لحل المشاكل الخارجية والاستعمارية. لا تكن قاسيًا فتكسر. ولكننا نظلم الإنكليز إذا ظننا أن هذا المبدأ هو دائمًا مبدؤهم في البلدان التي يحكمونها خارج الجزائر الإنكليزية. أما في البلاد العربية فلا ريب أن المرونة هي غالبًا روح سياستهم قولًا وعملًا. وقد يتخللها في الأزمات إطلاق مدفع أو في الأقل مناورة بحرية، فتعود السياسة بعدئذ إلى مجاريها الملتوية المائعة.
إن من يُنعم النظر في بلاد العرب وأحوالها الجغرافية والسياسية والدينية، وفي تشتت أمورها، واختلاف نزعاتها، يرى بعض الحكمة في خطة سياسية تمتد إلى كل مكان دون أن تنقطع أو يعتريها شيء من الضعف. مدَّها، مطَّها، من عدن فتصل إلى صنعاء رقيقة لطيفة، مطَّها من الكويت فتصل إلى ما وراء الدهناء، ومن شرقي الأردن فتصل إلى الجوف، فتداعب أطرافها الوهابية، وتتعلق بأنامل ابن سعود. مطها من الحديدة فتنعقد في صبيا، ومن جدة فتلتوي وتدق، ولا تنقطع حتى في ظلال الكعبة، ولكل مطَّة خُطَّة، ولكل يد تمط أسلوب خاص بصاحبها. في اللين ربقات لكل الرءوس، والسوائل تدخل في كل الكئوس.
إن أجلى ما هنالك من مظاهر المبدأ المرن هو ما يصنع في دار الاعتماد بعدن من الربقات السياسية. هذه ربقة تسر، وهذه ربقة تخنق، وتلك تؤلم ولا تضر، وبينها كلها درجات في الضغط والإرخاء، في الربط والحلِّ، توجبها أحوال اليمن الأسفل، والعشائر القاطنة تلك الأنحاء. وكيف لا وفي سلاطينها من لا يلبس غير الفوطة، يستر بها عورته، ومن هو في لبسه، وفرش بيته، وأخلاقه وتهذيبه من أرقى أمراء العرب. أجل، إن بين الاثنين درجات في الوحشية والتمدن لا يمكن الحاكم الذي لا يهمه من الأمر غير الحكم والمصلحة أن يشملها كلها بنفوذه، ويقيدها بحكمه، إلا إذا عمل بقاعدة لويد جورج السياسية.
ولهذه القاعدة مظاهر شتى، أولها المعاهدات الولائية، في المشاهرات المالية، ومدافع الترحيب والتوديع لمن يجيء إلى عدن من السلاطين أو يسافر منها، ثم الألقاب والنياشين، ثم التحزب لبيت طامع بالملك على بيت مالك أو عكس ذلك، فالتدخل في السياسة المحلية عند انتخاب أو تعيين أحد الحكام. وأخيرًا، بل يصح أن يكون الأخير أولًا، المحافظة على استقلال كل سلطان وأمير؛ عملًا برغبتهم، وبمصلحة بريطانيا. نعم، ما من أمير أو سلطان أو شيخ قبيلة إلا يبغي الاستقلال التام، ولا بأس إذا قُيد بمشاهرات وبهدية كل عام. هذه لعمري بلية العرب الكبرى التي توافق مصلحة الإنكليز الكبرى. وكأني بهم يقولون للأمير العربي: أنت تبغي الاستقلال. أنت مستقل، نحن نعترف بذلك، وندفع لك المال لتحافظ على استقلالك. نحن لا نبغي إلا ما تبغيه، وهذا عهد الولاء والحماية. ولكن في هذا العهد الربقة التي تخنق، فيه البند المشهور: لا يحق للسلطان أو الأمير أن يتعاهد وأحد زملائه أو يبيع أو أن يؤجر أو يهب شيئًا من بلاده إلى أحد أمراء العرب أو الأجانب، أو يمنح امتيازًا دون أن يستشير ويستأذن الحاكم في عدن.
هذه خطة الإنكليز في عدن والنواحي التسع المحمية، وهي تختلف عن خطتهم في عسير — مثلًا — بعض الاختلاف، ولا تلتئم أساسًا بخطتهم في العراق. وبين هذين الطرفين في القاعدة المرنة، بين عدن وبغداد، مظاهرُ أخرى في المرونة ستراها في الكويت وفي البحرين.
أقام الفرنسيون في عدن بضعة أسابيع شاهدوا فيها ما لا يشاهده السائح اليوم. قد كانت في تلك الأيام عدن العرب والتوحيد، بل عدن الشرق الصميم، الرقيق الجانب، الكريم الخلق، العزيز الشأن.
والفضل لكاتب تلك البعثة المسيو لاروك في وصف المدينة وصفًا تثبت جله صورة حفرها على النحاس رسام هولندي في ذاك الزمان. رأيت الصورة، وقرأت الكتاب، فقلت: أين أرميا ينثر الأشعار في ندب الديار؟ أين سورُكِ الذي كان يطوق الجزيرة يا عدن؟ وأين قصورك تفوق قصور ابن ذي جَدَن؟ وأين حمَّاماتك الجميلة المرصوفة بأنواع الرخام، المزدانة ببقية من عمد الأصنام؟ وأين مساجدك ذات القباب البيضاء والزرقاء، والمآذن الدقيقة البناء؟ وأين آثار أدبائك وشعرائك، ومن كان يمشي سامد الرأس تحت لوائك؟ بل أين تلك اللغة اليوم من رطانات وطمطمانيات سرت من الشرق ومن الغرب إليها؟ بل أين تلك الروح روح قحطان، وتلك المكارم مكارم عدنان، وذاك المظهر الشريف النقي مظهر الوحدة القومية، تزينه الفصاحة والفروسية؟
أما عدن اليوم فمدينة الشرك هي لا مدينة التوحيد، مدينة عمومية لا عربية ولا شرقية ولا أوروبية، مدينة التجارة والفحم والمضارب العسكرية. هي من الوجهة الحربية جبل طارق الشرق، ومن الوجهة التجارية مركز استيراد وتوزيع مهم في البحر العربي، ومن الوجهة البحرية هي مستودع فحم لبواخر العالم التي تجري بين الشرق والغرب، وهي فوق ذلك وقبل كل ذلك مستودع رئيسي للبواخر الإنكليزية في الطريق بين الجزر البريطانية والهند. لا يفوقها سوى جبل طارق والسويس.
إن المدينة تقسم قسمين: عدن الفحم والحصون والسياسة، وتدعى التواهي، وعدن التجارة والموبقات، وتدعى كمب، أي المعسكر. في الأولى وهي على الشاطئ دار الاعتماد، والقنصليات، وبيوت الضباط، والموظفين، والإنزال، وبعض المخازن التي تباع فيها بضائع الشرق والغرب الرديئة بأسعار غالية. وفي الثانية وهي وراء الجبل على مسافة خمسة أميال، في فم البركان، أو ما كان بركانًا في قديم الزمان، وفيها أربعون ألفًا من السكان من كل شعوب الأرض والأديان. فيها المسلم الذي يصلي إلى الله، والبارسي الذي يصلي إلى الشمس، والبُنيا الذي يصلي إلى الأوثان، والمسيحي مكرم الصور والصلبان، والإسماعيلي صاحبُ صاحبِ الزمان، واليهودي مسبِّح الذهب الرنان. وفيها من يغسلون ويكفنون أمواتهم، ومن يحرقونهم، ومن يحملونهم إلى برج السكينة لتأكلهم النسور والعقبان.
كل هؤلاء يتاجرون ولا يتنافرون، ويربحون ولا يفاخرون. أما بيوتهم فواحدة لا تُعرف أعربية هي أم هندية أم أوروبية، وأما أديانهم فهي كالأشجار والأدغال في الغاب، وهم في ظلالها لا يتغيَّرون ولا يتطورون. الزاهرون والزاهرات والشائكون والشائكات. قلت: إن يوم زار المسيو لاروك عدنًا لم يكن فيها غير الإسلام وحفنة من اليهود والبُنيان. أما اليوم ففيها من المذاهب الدينية مائة مذهب ومذهب تعيش كلها في فم البركان، بسلام وأمان. وليس فيها غير واحد من المذاهب السياسية، تصونه التقية، ويعززه الدينار والقوة، هو مذهب الاحتلال. والتاجر، وطنيًّا كان أو أجنبيًّا، هو دائمًا مع الحكومة، أو بالحري لا يهمه من الحكومة غير الأمن والنظام. ومهما قيل في حكومة عدن البريطانية فالأمن والنظام ركنان فيها ثابتان.
وفي التواهي — أي عدن السياسة — دائرة أشغال هي أهم من كل ما ذكر هناك. وبين تلك الربى المكللة بالحصون الحديثة، المتصلة بعضها ببعض بوساطة الأنفاق، رابية لا علاقة لها مباشرة بالحروب أو بالسياسة. رابية عامرة نيِّرة منيرة، بيوتها كلها حديثة هندسة وبناءً، ومهنةُ سكانها أهم من المهن الرسمية كلها. هي قرية قائمة بذاتها؛ فيها المطعم، والحانة، والنادي، وأسباب اللهو والرياضة والراحة جميعها. وإليها ومنها تمتد الأسلاك، أسلاك السحر الحديث، سحر العلم والعمل. من الشرق وجزر الشرق الكبيرة، من أستراليا والفيليبين، من أفريقيا وأوروبا، من قارات الأرض تجري أمواج السحر في أسلاك العلم والعمل. فتُهَمْهِم وتطنُّ تحت الماء في أعماق البحار، وتبرق على صدر اليبس، ونورها كامن في السلك، والسلك في القماش، والقماش في القار، والقار في الحديد. هي أنباء العالم، أنباء التجارة والاجتماع والسياسة، يحملها البرق تحت الأمواج فتصل إلى عدن، تلك الربوة المهمة فيها، إلى مركز البرق هناك. ثم تتوزع منه كما تتموج إليه أمواجًا، فتربط الأمم الشرقية بالغربية، وتقضي على المسافات في المعاملات والمراسلات، تحصرها في سلك نصفه يمتد من تلك الرابية شرقًا وجنوبًا، والنصف الآخر غربًا وشمالًا. وهذا السلك هو قوام الاتصال بين الشرق والغرب، بل هو قوام التجارة وأحد أركان المدنية والعمران.
لا شك أن في العالم مراكز برق أكبر من تلك التي في عدن. ولكن ليس في العالم — على ما أظن — أهم منها. اقطع ذاك السلك، أوقف العمل على تلك الرابية، أسكت المائة آلة التي تدندن ليل نهار هناك، فتعود البحار إلى ظلمها القديم، واستبدادها في المسافات، وتمسي قارات العالم القديم كلها — آسيا، وأوروبا، وأفريقيا، وأستراليا — وكل منها في عزلة الجزر أو الجبال، لا صلة بينها غير تلك التي يحملها الرسول أو البخار.
أجل، إن شركة التلغراف في عدن لإحدى أيدي المدنية والعمران. وهناك في تلك الأهرام والركام على شاطئ البحر يدٌ سوداء، ولكنها في العمران بيضاء، هي يد الفحم والبخار، وفوقها وفوق المدينة نور وهَّاج ينير الميناء ليلًا، ويدير حركة البواخر والمراكب بأنواره الملونة. هو ذا ثالوث عدن المادي. عرش البرق على هذه الرابية، وعرش النور على جارتها، وعرش البخار على الشاطئ فوق ركام الفحم العالية. إن فيها كلها حياة يكبر الغربيون أسبابها، ولا يزدريها باطنًا الشرقيون. وكيف يزدرونها وهي في بلادهم تحيي التجارة والبحارة! ليطفأ نور تلك المنارة، منارة عدن، فتصطدم وتغرق المراكب في البحر. لتقفل أبواب شركات الفحم، فتقف وتبطل حركة البواخر بين الشرق والغرب، وتنقطع إذ ذاك هذه الصلة الحديثة بين القارات كلها.
لا بد إذن من البرق والنور والبخار في عدن، ومن يد تديرها وتحافظ عليها وتحميها. واليد اليوم بريطانية، وقد تكون غدًا يابانية، أو عربية، لكن الغد لله. يهمنا اليوم ويهم العالم أجمع أن تبقى هذه المحطة الكبيرة، هذه الصلة المهمة، في كنف الأمن والنظام. ولو كان فيَّ ذرة من اليقين أن الإمام يحيى يستطيع أن يقوم مقام البريطانيين لما فضلت أحدًا وطنيًّا كان أو أجنبيًّا عليه. إني آسف أن الروح العربية تقلَّصت في عدن واضمحلَّت، وإنه ليحزنني ويحزنك أيها القارئ العربي — وقد أشرفنا على شيء من مجد غابرها — أن نراها في يد الأجانب. ولكننا في زمان سيده المال، وحاكمه الاقتصاد، ومديره الأول العلم. وليس عندنا من الثلاثة ما يؤهلنا اليوم لوظيفة صغيرة في معمل هذا الزمان الأكبر.
قلت الإنصاف، وهاك مثالًا واحدًا من آفاته: في عدن صيارفة وتجار عديدون يتاجرون بالأوراق المالية والنقود، ولكن ليس فيها غير مصرف واحد هو فرع لمصرف الهند — البريطاني — المشهور، وهذا المصرف لأنه الوحيد يستبدُّ بالتجار استبدادًا يعرقل التجارة، ويضعف أسبابها. قد شكا كثيرون منهم الأمر إلى القناصل علَّ مصرفًا أميركيًّا أو فرنسيًّا أو إيطاليًّا يفتح له فرعًا هناك؛ فيخفف بالمناظرة استبداد واستئثار مصرف الهند. ولكن دون ذلك صعوبات ظاهرة وخفية، ولحكومة عدن ولا ريب يد فيها.
إني لا أرى عذرًا لمثل هذا الاستئثار الذي يعدُّ صغارة في الاستعمار. بيد أن من العدل ألا أفرد الإنكليز بالذنب، وأخصهم دون سواهم بالتثريب. فالفرنسيون في جيبوتي مثلًا، والإيطاليون في مصوع هم من هذا القبيل مثل الإنكليز في عدن. قد لا تجد تاجرًا واحدًا إنكليزيًّا أو إيطاليًّا في جيبوتي، فكيف بمصرف غير فرنسي؟ وقد لا تجد عاملًا فرنسيًّا أو إنكليزيًّا في مصوع، فكيف بمصرف غير إيطالي؟ إن هذه الروح الأوروبية الصغيرة في التجارة والاستعمار، وإن شئت فقل روح الاستئثار والاحتكار، لمن أول أسباب الانحطاط الأوروبي في الشرق. فإذا كنت لا تطيق أخاك الأوروبي مزاحمًا، إذا كنت تضن عليه بفرصة يغتنمها فيستثمرها مثلك في بلاد غريبة، فكيف تطيق الوطني أو تحسن به الظن في الأقل؟ وبأي حق — والحال هذه — تطلب منه الثقة والاحترام؟ إني مخلص لك أيها الأخ الأوروبي في ما أقول. قد يطيعك الشرقي ويخدمك، ويكون لك جاسوسًا على أخيه، ولكنه في قلبه يكرهك ويحتقرك. وليس هو وحده المسئول الملوم. عد إلى نفسك أيها الأخ الأوروبي، وفكر فيما أقول؛ إني أبغي لك ولابن الشرق خيرًا في بلاده مشتركًا، متبادلًا، متساويًا.
لكن روحك أيها المستعمر لا تعجب المنصفين من الأمتين. كأني أسمعك تقول: جئنا هذه البلاد وفتحناها وعمَّرناها، وليس لغيرنا الحق أن ينتفع منها وفيها انتفاعنا. هذه هي روح الاستعمار الأوروبي في عدن، وفي جيبوتي، وفي مصوع، وقل إن شئت في الهند، وفي الجزائر، وفي طرابلس الغرب، وهي الروح التي تفسد على الشرقي أهم مظاهر الحكم الغربي، أي الإدارة والنظام، فحبذا الحكمة في أطماعهم تلطفها، وحبذا الحصافة في استئثارهم تخفف من عواقبه الوخيمة. لست ممن يغمضون عيونهم ويضربون، ولا ممن يولون المغرب وجوههم ويكرهون. ولكني أهاب على الأوروبيين من يوم يعم فيه البلاء؛ فينهض الشرق — الشرق العاقل، والشرق المجنون، الشرق المتعصب، والشرق المتساهل — ينهض نهضة واحدة على المدنية الأوروبية كلها؛ بحذافيرها؛ لأنه لا يرى فيها غير سيئاتها، غير الشره والشهوات، والاستئثار والمنكرات. بودي قبل أن تأزف تلك الساعة أن يعدل الأوروبي، ويعقل الشرقي، فيتفاهم الاثنان ويأتلفان، وينتفع الواحد من الآخر.
قلت: إن الأمن والنظام في عدن ركنان ثابتان، ولا شك أن البريطانيين قد بذلوا في سبيلهما قسطًا من القوة جسيمًا، ومثله من السياسة والدهاء، ثم بتضحيات من مال ورجال ليس أكرم منهم فيها. بيد أن احتلالهم عدن واستيلاءهم على النواحي المجاورة لها لا يخلوان من الحيف والخداع.
قد علموا عند احتلالهم عدن بأنه يجب لحمايتها جيش كبير يقيم فيها. ولكن إدارة شركة الهند يومئذ فضَّلت تلك الخطة التي تقدَّم الكلام عليها، ثم عندما تسلَّمت الحكومة البريطانية زمام الأمور في الهند، استخدمت بعض القوة في تأييد مركزها في عدن، ورأت أنها تحتاج إلى قوات بحرية وبرية ترابط فيها. وقد تعجز مع ذلك عن الحماية إذا لم يكن لعدن منطقة كالدرع تصونها من تعديات العرب الذين يحيقون بها من جهات ثلاث: من الشرق، والغرب، والشمال، ويحاربون كالقرود، ويعتصمون بالجبال. فاتخذت لذلك سياسة لينٍ تدعمه الشدة، وباشرت المفاوضات، وابتاعت من الأراضي ما لم تستطع الاستيلاء عليه بالسياسة ولم تشأ أخذه بالقوة. فتم لعدن الدرع الذي تحتاجه، وهو خط يمتد من الغدير على البحر غربًا إلى دار الأمير شمالًا، ومنها شرقًا بشمال إلى أم العُمُد بحرًا. ثم أقامت في هذه المنطقة البريطانية الاستحكامات العسكرية، ونقلت إليها الجنود من الهند، وظلت مع ذلك في خطر دائم من العرب المحيقين بها، من الصُّبَيْحة والحواشب واليوافع وغيرهم.
فما العمل إذن؟ قد يكلفنا الدفاع عن عدن آلاف الجنيهات يوميًّا إذا فرضنا أنه يتعين علينا أن نقيم فيها دائمًا عشرة آلاف جندي. وقد يكلفنا الدفاع عن المنطقة التي ظنناها درعًا منيعًا آلافًا أُخَر. ولكني أقف عند حد في النفقات لا يتجاوز إلا القليل من هذه القيمة كل يوم، وأفترض أن الحكومة البريطانية تستطيع بذلك أن تدوِّخ العُربان وتؤدبهم، وتستولي على بلادهم، فتدخلها في منطقة الاحتلال. ولكنها تضطر عندئذ أن تضاعف قواتها العسكرية، فتتضاعف النفقات؛ لتدفع عن هذه المقاطعات غارات عرب الجبال من زيود وشوافع شرقًا وشمالًا. النتيجة: إننا كلما توغلنا في اليمن زادت النفقات والأخطار. فالولاء إذن خير من العداء. على أن لا بد لنا من قوة نرهب بها أولًا من نبغي ولاءه، فإذا كسرنا هذا الأمير، ونكَّلْنا بذاك الشيخ، ثم صافحنا ووالينا وبذلنا المال مشاهرات، كان لنا من الصداقة والإذعان ما نريد.
وكذلك كان. مرت على عدن بعد احتلالها سنون فادت فيها إنكلترا بكثير من المال والرجال. حاربت القبائل، ثم عاهدت أمراءهم واحدًا واحدًا. ضربتهم، وفرَّقتهم، وأقامت الحدود بينهم، ورفعتهم إلى مقام السلاطين، واشترت صداقتهم بالمشاهرات المالية. وما هي تلك المشاهرات بالنسبة إلى نفقات الحرب والدفاع؟
إليك جدول الحساب الآخر. في المنطقة المحمية تسع ولايات، أو إمارات، أو سلطنات. فلو فرضنا أن كل أمير يتقاضى الإنكليز أربعمائة روبية كل شهر — وهي أكبر المشاهرات، إذا استثنينا مشاهرة سلطان لحج — وأن في كل إمارة زعماء، رجال الأمير أو أعداءه، يتقاضونهم كذلك مثل هذه القيمة، فيبلغ ما تدفع عن ولاء الأمراء التسعة ورجالهم سبعة أو ثمانية آلاف روبية كل شهر، أي خمسمائة ليرة إنكليزية. وإذا فرضنا أن في الافتراضين، أي حساب الجيش،