مقالات

. أبخرة الفحم الحجري في مصنع أسمنت الوطنية معاناة تمتد من الإنسان إلى الشجر والنحل

محمد سعد الحريزي

Img 20250923 Wa0218

تحت سماء مثقلة بالدخان والغبار، يعيش سكان المناطق المجاورة للشركة الوطنية للأسمنت فصولًا متكررة من المعاناة، حيث يتصاعد القلق مع كل نفثة من أبخرة الفحم الحجري الذي تستخدمه الشركة كوقود لتشغيل مصانعها. هذه المادة، رغم كونها مصدرًا رخيصًا للطاقة للشركة، إلا أنها فاتورة باهظة يدفعها المواطنون من صحتهم وأرزاقهم وبيئتهم.
الأضرار الحقيقية والموثقة للفحم الحجري
إن استخدام الفحم الحجري في توليد الطاقة، سواء في محطات الكهرباء أو مصانع الإسمنت، ينتج عنه مجموعة من الملوثات الخطيرة التي لا تقتصر أضرارها على منطقة محدودة، بل تمتد لتشمل البيئة بأكملها. من أبرز هذه الأضرار:
انبعاثات الغازات السامة: عند حرق الفحم الحجري، تنطلق غازات مثل ثاني أكسيد الكبريت (SO_2) وأكاسيد النيتروجين (NO_x). تتفاعل هذه الغازات مع الماء في الغلاف الجوي لتكوّن الأمطار الحمضية، التي تدمر المحاصيل الزراعية، وتلوث مصادر المياه، وتتسبب في تآكل المباني.
الجسيمات الدقيقة (PM2.5): وهي أخطر نواتج الاحتراق، فهذه الجسيمات الصغيرة يمكنها اختراق أعمق أجزاء الجهاز التنفسي والدخول إلى مجرى الدم، مسببة أمراضًا خطيرة مثل الربو، والتهاب الشعب الهوائية، وسرطان الرئة، وأمراض القلب.
المعادن الثقيلة يحتوي الفحم الحجري على معادن سامة مثل الزئبق والرصاص والزرنيخ. عند إطلاقها في الهواء، تترسب هذه المعادن في التربة والمياه، وتتراكم في السلسلة الغذائية، مما يشكل خطرًا على صحة الإنسان والحيوان.
تأثيره على التربة والمياه: يتسبب غبار الفحم المتطاير في تغيير الخصائص الكيميائية للتربة، مما يقلل من خصوبتها ويضر بالنباتات. كما أن تسرب الملوثات إلى المياه الجوفية والسطحية يقضي على الكائنات المائية ويجعل المياه غير صالحة للشرب أو الزراعة.
صرخة من الميدان: شهادات حية من المتضررين
لا تبقى هذه الأضرار مجرد أرقام في تقارير علمية، بل هي واقع مرير يعيشه السكان يوميًا. يروي أحد المواطنين من أهالي “بله”، وهو مربي نحل، بحسرة وألم كيف فقد مصدر رزقه. يقول: “خلايا النحل الخاصة بي كانت تقع في مسار الرياح التي تحمل دخان المصنع. خلال فترة قصيرة، بدأت ألاحظ ضعفًا في طوائف النحل ثم موتها الجماعي. لقد نفقت أعواد النحل بالكامل. الأبخرة والغبار الأسود يغطيان الأزهار ويلوثان رحيقها، فالنحل إما يموت مسمومًا أو يهجر المكان”.
هذه الشهادة ليست حالة فردية، فالمزارعون أيضًا يشتكون من ظهور أمراض غريبة على مزروعاتهم. انتشرت بقع سوداء لزجة على أوراق النباتات وثمارها، وهو ما أطلقوا عليه محليًا اسم “داعش” نظرًا لفتكه المدمر بالمحاصيل. يرجح الخبراء أن هذه الظاهرة قد تكون نوعًا من “العفن السخامي” (Sooty Mold)، وهو فطر ينمو على إفرازات الحشرات التي تنجذب إلى النباتات المجهدة بيئيًا بسبب الملوثات، أو قد يكون نتيجة مباشرة لترسب غبار الفحم والجسيمات الدقيقة التي تخنق مسام النباتات وتجعلها عرضة للأمراض.
مطالب مشروعة تقابل بتجاهل تام
أمام هذا الضرر الواضح والمتزايد، لم يقف المواطنون مكتوفي الأيدي. نظموا وقفات احتجاجية واعتصامات متكررة أمام بوابة الشركة، مطالبين بحقهم الأساسي في بيئة نظيفة وصحية. مطلبهم واضح ومحدد: إغلاق محطة الفحم الحجري والبحث عن بدائل طاقة أنظف وأقل ضررًا.
لكن المأساة الأكبر، كما يصفها الأهالي، هي حالة “الصلف واللامبالاة” التي تقابل بها مطالبهم. تتكرر الاعتصامات لأيام طويلة، ورغم ذلك، لا حياة لمن تنادي. يبدو أن إدارة الشركة، مع علمها اليقيني بالأضرار التي يسببها الفحم الحجري على البشر والحيوان والشجر، تضع أرباحها فوق كل اعتبار.
فالمنطق التجاري البحت يوضح سبب هذا التجاهل؛ إذ إن الفارق في تكلفة تشغيل المحطة باستخدام الفحم الحجري بدلًا من المشتقات النفطية الأخرى (مثل الديزل أو المازوت) يوفر للشركة مكاسب مالية ضخمة. وهكذا، تُختزل حياة الناس وصحتهم وأرزاقهم في معادلة الربح والخسارة، وهي للأسف معادلة خاسرة دائمًا للمجتمعات الفقيرة والبسيطة.
وهذه السياسة، كما يرى الكثيرون، ليست محصورة في هذه الشركة وحدها، بل هي نهج تتبعه العديد من الشركات الكبرى التي تضع الأرباح في المرتبة الأولى، حتى وإن كان الثمن هو تدمير البيئة ونشر الأمراض بين من لا حول لهم ولا قوة.
إن قضية سكان “بله” والمناطق المجاورة هي صرخة في وجه كل من يرى في تلوث البيئة ثمنًا مقبولًا للتنمية الصناعية. فالتنمية الحقيقية هي التي تحفظ للإنسان كرامته وحقه في الحياة، لا تلك التي تبني أرباحها على أنقاض صحته ومستقبل أجياله.