مقالات

الأزمة الاقتصادية والخدماتية في الجنوب.. حرب ناعمة بأدوات مختلفة

لحج الغد /كتب/ مناف الكلدي

 

يواجه الجنوب اليوم أزمة اقتصادية وخدماتية خانقة، حيث تتفاقم معاناة المواطنين مع استمرار انهيار العملة المحلية، وارتفاع أسعار المواد الأساسية، وانقطاع الكهرباء والمياه، وتراجع الخدمات الصحية والتعليمية.

هذه الأزمة ليست مجرد نتيجة للظروف الراهنة، بل هي جزء من حرب ممنهجة تستهدف الجنوب بأساليب غير تقليدية، تتجاوز القوة العسكرية إلى استخدام الاقتصاد كسلاح لإضعاف الإرادة الشعبية. وكما فشلت القوى المتربصة بالجنوب في حسم المعركة عسكريًا، فإنها اليوم تلجأ إلى وسائل أخرى، في محاولة لإعادة إنتاج سياسات الإقصاء والتهميش التي بدأت منذ اجتياح 1994.

 

في أي دولة، تتحمل الحكومة المسؤولية الكاملة عن إدارة الاقتصاد وتوفير الخدمات للمواطنين، وبالتالي فإن التدهور المعيشي في الجنوب يقع على عاتق الحكومة والمجلس الرئاسي، اللذين لم يظهرا أي جدية حقيقية في معالجة الأزمات المتفاقمة.

ومع ذلك، نجد هجومًا ممنهجًا ومستمرًا على المجلس الانتقالي الجنوبي، وكأنه هو المتحكم بالمجلس الرئاسي والحكومة، في حين أن الوقائع تؤكد أن الانتقالي جزء من الحكومة وليس المتحكم فيها.

 

المثير للاهتمام أن هذه الحملات لم تبدأ بعد دخول الانتقالي الحكومة، بل تعود إلى فترة سابقة، عندما كان المجلس خارج إطار السلطة التنفيذية، حيث كان يتعرض لهجمات متواصلة مع تحميله مسؤولية الأوضاع الاقتصادية، في مسعى واضح للنيل منه وإضعافه. وهذا يؤكد أن استهداف الانتقالي ليس عفويًا، بل تقف خلفه قوى معادية للجنوب تسعى لتشويه صورته والتقليل من نجاحاته، خصوصًا على المستوى السياسي، وبالتالي، فإن التساؤل حول جدوى وجود الانتقالي في الحكومة يجب أن تتم دراسته ومناقشته بشكل موضوعي، بعيدًا عن الدعاية الموجهة، وينبغي تقييم التجربة بميزان دقيق يراعي الواقع السياسي المعقد.

 

لم يكن دخول الانتقالي إلى الحكومة خيارًا مطلقًا، بل خطوة فرضتها ظروف المرحلة، وهو ليس مكسبًا خالصًا ولا خسارة مطلقة، بل يحمل في طياته إيجابيات وسلبيات. فمن جهة، أدى هذا الانضمام إلى الاعتراف الرسمي بالمجلس الانتقالي كممثل سياسي للجنوب، وعزز مكانته على المستويين الداخلي والخارجي، كما فرض قضية الجنوب على طاولة المفاوضات القادمة، وساهم في تحويل القوات الجنوبية من كيان غير معترف به إلى قوة شرعية.

لكن في المقابل، لا تزال بعض القوى النافذة داخل الحكومة تمارس سياسات الإقصاء والتهميش، مما يحدّ من قدرة الانتقالي على إحداث تغيير فعلي يخدم الجنوب، وهذا يفرض على المجلس تقييم تجربته بواقعية، واتخاذ قرارات حاسمة إذا ثبت أن وجوده داخل الحكومة يُستخدم فقط كغطاء شرعي لتمرير سياسات معادية لمصالح الجنوب.

 

الحرب الاقتصادية والخدمية ضد الجنوب ليست وليدة اللحظة، بل هي امتداد لسياسات بدأت منذ اجتياح 1994، حين تم تسريح عشرات الآلاف من العسكريين والموظفين الجنوبيين، وتدمير المصانع والمؤسسات الإنتاجية، وفرض سياسات ممنهجة لتجفيف الجنوب من مصادر قوته الاقتصادية.

هذه الاستراتيجية تواصلت عبر عقود، من خلال الاستحواذ على الثروات النفطية والغازية، والتحكم في الموانئ والموارد المالية، وحرمان الجنوب من التنمية المستحقة. واليوم، لا يختلف المشهد كثيرًا، حيث يُستخدم الاقتصاد كأداة سياسية لإضعاف الجنوب، عبر تعطيل الخدمات، والتلاعب بالعملة، ونهب الموارد، ومحاولات فرض معادلات جديدة تُبقي الجنوب تابعًا لقوى لا تخدم مصالحه.

 

وفي ظل هذه الأوضاع، تحاول بعض الأطراف إعادة تقديم القوى التي دمرت الجنوب في الماضي على أنها اليوم تقدم حلولًا لإنقاذه، مستخدمة مساعدات رمزية مصحوبة بحملات إعلامية موجهة من قبل بعض وسائل الإعلام والناشطين التابعين لهم.

لكن الجنوبيين، الذين عايشوا سياسات التجويع والتدمير لعقود، يدركون أن المتورطين في تدمير البنية التحتية، ونهب الثروات، وإقصاء الكفاءات الجنوبية، لا يمكن أن يتحولوا فجأة إلى “منقذين”، مهما حاولوا ارتداء أقنعة جديدة.

لذلك، فإن أي حديث عن حلول للأزمة الاقتصادية يجب أن ينطلق من فهم عميق للأسباب الحقيقية لهذه الأوضاع، وعدم الوقوع في فخ الدعاية التي تسعى لتبييض صورة من تسببوا في هذه الكوارث.

 

وفي ظل استمرار الأزمة، فإن على المجلس الانتقالي تحمل مسؤوليته التاريخية والسياسية، واتخاذ خطوات جادة لحماية الجنوب من هذه الحرب الاقتصادية.

وفي هذا السياق، يجب ممارسة ضغوط حقيقية داخل المجلس الرئاسي، من خلال الأعضاء الجنوبيين، وعلى رأسهم الرئيس عيدروس الزُبيدي ونائبيه أبو زرعة المحرمي وفرج سالمين البحسني، لإجبار الحكومة على اتخاذ إجراءات عاجلة لمعالجة التدهور الاقتصادي والخدماتي. وإذا استمر التعنت، فإن الخطوة التالية يجب أن تكون إعلان الحكم الذاتي في الجنوب، كإجراء ضروري لحماية المواطنين وإدارة الموارد بما يخدم مصالحهم.

كما يتعين على المجلس الانتقالي استعادة السيطرة على الموارد الاقتصادية الحيوية، ومنع استمرار استنزاف الثروات النفطية والغازية لصالح جهات لا تخدم الجنوب، إضافة إلى تعزيز الشراكات الإقليمية والدولية لضمان دعم اقتصادي واستثماري يسهم في خلق بيئة تنموية مستقرة. ومن الضروري أيضًا إطلاق مشروع اقتصادي بديل، يستهدف بناء مؤسسات اقتصادية جنوبية قادرة على إدارة الموارد بشكل مستقل، وإنهاء حالة الارتهان للقرارات الاقتصادية القادمة من جهات لا تكترث باستقرار الجنوب.

 

الأزمة الاقتصادية والخدمية في الجنوب ليست مجرد مشكلة عابرة، بل هي جزء من مخطط واضح لإضعاف الجنوب وإبقائه في حالة عدم استقرار. ومع استمرار تجاهل الحكومة لهذه الأوضاع، يصبح لزامًا على المجلس الانتقالي اتخاذ قرارات حاسمة توقف هذا النزيف، وتحمي الجنوب من محاولات تركيعه اقتصاديًا بعد فشل إخضاعه عسكريًا.

وختاما فإن الشعوب التي لا تدافع عن استقلالها الاقتصادي، تجد نفسها عاجزة عن تحقيق طموحاتها السياسية، وهذا ما يجب أن يدركه الجميع في هذه المرحلة المصيرية.