سلاطين ومشايخ لحج والنواحي المحمية
- حدودها: جنوبًا ساحل البحر العربي، من باب المندب إلى بَلحاف بالقرب من التقاء الخطين الثامن والأربعين من الطول الشرقي والرابع عشر من العرض الشمالي. شرقًا حضرموت. غربًا البحر الأحمر. شمالًا البلاد التي يحكمها الإمام يحيى. وقد قلقلت جيوشه بعض الحدود القديمة بينه وبين أصحاب الحماية.
- مساحتها: نحو ألفين وخمسمائة ميل مربع.
- سكانها: نحو ثلاثمائة ألف نفس.
- أهم قبائلها: العَبَادِلة، واليَوَافِع، وآل فضل، والعوالق، والحواشب، والصُّبَّيحَة.
- أهم مدنها: شقره، والحوطه، وبلحاف على البحر العربي، ولحج، وأبين، وأنصاب، ومُسيمير، وحبان.
- مذاهبها: السنة: شوافع وحنفيون. الشيعة: جعفريون، وإسماعيليون، وزيديون. وفي عدن: اليهود، والهندوس، والنصارى. وفي القبائل داخل البلاد من لا يزالون على العادات الجاهلية لا يعرفون الإسلام.
(٢) الثالوث المادي في عدن
قال المستر لويد جورج مرة: إن المبدأ المرن في السياسة هو أصلح المبادئ لحل المشاكل الخارجية والاستعمارية. لا تكن قاسيًا فتكسر. ولكننا نظلم الإنكليز إذا ظننا أن هذا المبدأ هو دائمًا مبدؤهم في البلدان التي يحكمونها خارج الجزائر الإنكليزية. أما في البلاد العربية فلا ريب أن المرونة هي غالبًا روح سياستهم قولًا وعملًا. وقد يتخللها في الأزمات إطلاق مدفع أو في الأقل مناورة بحرية، فتعود السياسة بعدئذ إلى مجاريها الملتوية المائعة.
إن من يُنعم النظر في بلاد العرب وأحوالها الجغرافية والسياسية والدينية، وفي تشتت أمورها، واختلاف نزعاتها، يرى بعض الحكمة في خطة سياسية تمتد إلى كل مكان دون أن تنقطع أو يعتريها شيء من الضعف. مدَّها، مطَّها، من عدن فتصل إلى صنعاء رقيقة لطيفة، مطَّها من الكويت فتصل إلى ما وراء الدهناء، ومن شرقي الأردن فتصل إلى الجوف، فتداعب أطرافها الوهابية، وتتعلق بأنامل ابن سعود. مطها من الحديدة فتنعقد في صبيا، ومن جدة فتلتوي وتدق، ولا تنقطع حتى في ظلال الكعبة، ولكل مطَّة خُطَّة، ولكل يد تمط أسلوب خاص بصاحبها. في اللين ربقات لكل الرءوس، والسوائل تدخل في كل الكئوس.
إن أجلى ما هنالك من مظاهر المبدأ المرن هو ما يصنع في دار الاعتماد بعدن من الربقات السياسية. هذه ربقة تسر، وهذه ربقة تخنق، وتلك تؤلم ولا تضر، وبينها كلها درجات في الضغط والإرخاء، في الربط والحلِّ، توجبها أحوال اليمن الأسفل، والعشائر القاطنة تلك الأنحاء. وكيف لا وفي سلاطينها من لا يلبس غير الفوطة، يستر بها عورته، ومن هو في لبسه، وفرش بيته، وأخلاقه وتهذيبه من أرقى أمراء العرب. أجل، إن بين الاثنين درجات في الوحشية والتمدن لا يمكن الحاكم الذي لا يهمه من الأمر غير الحكم والمصلحة أن يشملها كلها بنفوذه، ويقيدها بحكمه، إلا إذا عمل بقاعدة لويد جورج السياسية.
ولهذه القاعدة مظاهر شتى، أولها المعاهدات الولائية، في المشاهرات المالية، ومدافع الترحيب والتوديع لمن يجيء إلى عدن من السلاطين أو يسافر منها، ثم الألقاب والنياشين، ثم التحزب لبيت طامع بالملك على بيت مالك أو عكس ذلك، فالتدخل في السياسة المحلية عند انتخاب أو تعيين أحد الحكام. وأخيرًا، بل يصح أن يكون الأخير أولًا، المحافظة على استقلال كل سلطان وأمير؛ عملًا برغبتهم، وبمصلحة بريطانيا. نعم، ما من أمير أو سلطان أو شيخ قبيلة إلا يبغي الاستقلال التام، ولا بأس إذا قُيد بمشاهرات وبهدية كل عام. هذه لعمري بلية العرب الكبرى التي توافق مصلحة الإنكليز الكبرى. وكأني بهم يقولون للأمير العربي: أنت تبغي الاستقلال. أنت مستقل، نحن نعترف بذلك، وندفع لك المال لتحافظ على استقلالك. نحن لا نبغي إلا ما تبغيه، وهذا عهد الولاء والحماية. ولكن في هذا العهد الربقة التي تخنق، فيه البند المشهور: لا يحق للسلطان أو الأمير أن يتعاهد وأحد زملائه أو يبيع أو أن يؤجر أو يهب شيئًا من بلاده إلى أحد أمراء العرب أو الأجانب، أو يمنح امتيازًا دون أن يستشير ويستأذن الحاكم في عدن.
هذه خطة الإنكليز في عدن والنواحي التسع المحمية، وهي تختلف عن خطتهم في عسير — مثلًا — بعض الاختلاف، ولا تلتئم أساسًا بخطتهم في العراق. وبين هذين الطرفين في القاعدة المرنة، بين عدن وبغداد، مظاهرُ أخرى في المرونة ستراها في الكويت وفي البحرين.
أقام الفرنسيون في عدن بضعة أسابيع شاهدوا فيها ما لا يشاهده السائح اليوم. قد كانت في تلك الأيام عدن العرب والتوحيد، بل عدن الشرق الصميم، الرقيق الجانب، الكريم الخلق، العزيز الشأن.
والفضل لكاتب تلك البعثة المسيو لاروك في وصف المدينة وصفًا تثبت جله صورة حفرها على النحاس رسام هولندي في ذاك الزمان. رأيت الصورة، وقرأت الكتاب، فقلت: أين أرميا ينثر الأشعار في ندب الديار؟ أين سورُكِ الذي كان يطوق الجزيرة يا عدن؟ وأين قصورك تفوق قصور ابن ذي جَدَن؟ وأين حمَّاماتك الجميلة المرصوفة بأنواع الرخام، المزدانة ببقية من عمد الأصنام؟ وأين مساجدك ذات القباب البيضاء والزرقاء، والمآذن الدقيقة البناء؟ وأين آثار أدبائك وشعرائك، ومن كان يمشي سامد الرأس تحت لوائك؟ بل أين تلك اللغة اليوم من رطانات وطمطمانيات سرت من الشرق ومن الغرب إليها؟ بل أين تلك الروح روح قحطان، وتلك المكارم مكارم عدنان، وذاك المظهر الشريف النقي مظهر الوحدة القومية، تزينه الفصاحة والفروسية؟
أما عدن اليوم فمدينة الشرك هي لا مدينة التوحيد، مدينة عمومية لا عربية ولا شرقية ولا أوروبية، مدينة التجارة والفحم والمضارب العسكرية. هي من الوجهة الحربية جبل طارق الشرق، ومن الوجهة التجارية مركز استيراد وتوزيع مهم في البحر العربي، ومن الوجهة البحرية هي مستودع فحم لبواخر العالم التي تجري بين الشرق والغرب، وهي فوق ذلك وقبل كل ذلك مستودع رئيسي للبواخر الإنكليزية في الطريق بين الجزر البريطانية والهند. لا يفوقها سوى جبل طارق والسويس.
إن المدينة تقسم قسمين: عدن الفحم والحصون والسياسة، وتدعى التواهي، وعدن التجارة والموبقات، وتدعى كمب، أي المعسكر. في الأولى وهي على الشاطئ دار الاعتماد، والقنصليات، وبيوت الضباط، والموظفين، والإنزال، وبعض المخازن التي تباع فيها بضائع الشرق والغرب الرديئة بأسعار غالية. وفي الثانية وهي وراء الجبل على مسافة خمسة أميال، في فم البركان، أو ما كان بركانًا في قديم الزمان، وفيها أربعون ألفًا من السكان من كل شعوب الأرض والأديان. فيها المسلم الذي يصلي إلى الله، والبارسي الذي يصلي إلى الشمس، والبُنيا الذي يصلي إلى الأوثان، والمسيحي مكرم الصور والصلبان، والإسماعيلي صاحبُ صاحبِ الزمان، واليهودي مسبِّح الذهب الرنان. وفيها من يغسلون ويكفنون أمواتهم، ومن يحرقونهم، ومن يحملونهم إلى برج السكينة لتأكلهم النسور والعقبان.
كل هؤلاء يتاجرون ولا يتنافرون، ويربحون ولا يفاخرون. أما بيوتهم فواحدة لا تُعرف أعربية هي أم هندية أم أوروبية، وأما أديانهم فهي كالأشجار والأدغال في الغاب، وهم في ظلالها لا يتغيَّرون ولا يتطورون. الزاهرون والزاهرات والشائكون والشائكات. قلت: إن يوم زار المسيو لاروك عدنًا لم يكن فيها غير الإسلام وحفنة من اليهود والبُنيان. أما اليوم ففيها من المذاهب الدينية مائة مذهب ومذهب تعيش كلها في فم البركان، بسلام وأمان. وليس فيها غير واحد من المذاهب السياسية، تصونه التقية، ويعززه الدينار والقوة، هو مذهب الاحتلال. والتاجر، وطنيًّا كان أو أجنبيًّا، هو دائمًا مع الحكومة، أو بالحري لا يهمه من الحكومة غير الأمن والنظام. ومهما قيل في حكومة عدن البريطانية فالأمن والنظام ركنان فيها ثابتان.
وفي التواهي — أي عدن السياسة — دائرة أشغال هي أهم من كل ما ذكر هناك. وبين تلك الربى المكللة بالحصون الحديثة، المتصلة بعضها ببعض بوساطة الأنفاق، رابية لا علاقة لها مباشرة بالحروب أو بالسياسة. رابية عامرة نيِّرة منيرة، بيوتها كلها حديثة هندسة وبناءً، ومهنةُ سكانها أهم من المهن الرسمية كلها. هي قرية قائمة بذاتها؛ فيها المطعم، والحانة، والنادي، وأسباب اللهو والرياضة والراحة جميعها. وإليها ومنها تمتد الأسلاك، أسلاك السحر الحديث، سحر العلم والعمل. من الشرق وجزر الشرق الكبيرة، من أستراليا والفيليبين، من أفريقيا وأوروبا، من قارات الأرض تجري أمواج السحر في أسلاك العلم والعمل. فتُهَمْهِم وتطنُّ تحت الماء في أعماق البحار، وتبرق على صدر اليبس، ونورها كامن في السلك، والسلك في القماش، والقماش في القار، والقار في الحديد. هي أنباء العالم، أنباء التجارة والاجتماع والسياسة، يحملها البرق تحت الأمواج فتصل إلى عدن، تلك الربوة المهمة فيها، إلى مركز البرق هناك. ثم تتوزع منه كما تتموج إليه أمواجًا، فتربط الأمم الشرقية بالغربية، وتقضي على المسافات في المعاملات والمراسلات، تحصرها في سلك نصفه يمتد من تلك الرابية شرقًا وجنوبًا، والنصف الآخر غربًا وشمالًا. وهذا السلك هو قوام الاتصال بين الشرق والغرب، بل هو قوام التجارة وأحد أركان المدنية والعمران.
لا شك أن في العالم مراكز برق أكبر من تلك التي في عدن. ولكن ليس في العالم — على ما أظن — أهم منها. اقطع ذاك السلك، أوقف العمل على تلك الرابية، أسكت المائة آلة التي تدندن ليل نهار هناك، فتعود البحار إلى ظلمها القديم، واستبدادها في المسافات، وتمسي قارات العالم القديم كلها — آسيا، وأوروبا، وأفريقيا، وأستراليا — وكل منها في عزلة الجزر أو الجبال، لا صلة بينها غير تلك التي يحملها الرسول أو البخار.
أجل، إن شركة التلغراف في عدن لإحدى أيدي المدنية والعمران. وهناك في تلك الأهرام والركام على شاطئ البحر يدٌ سوداء، ولكنها في العمران بيضاء، هي يد الفحم والبخار، وفوقها وفوق المدينة نور وهَّاج ينير الميناء ليلًا، ويدير حركة البواخر والمراكب بأنواره الملونة. هو ذا ثالوث عدن المادي. عرش البرق على هذه الرابية، وعرش النور على جارتها، وعرش البخار على الشاطئ فوق ركام الفحم العالية. إن فيها كلها حياة يكبر الغربيون أسبابها، ولا يزدريها باطنًا الشرقيون. وكيف يزدرونها وهي في بلادهم تحيي التجارة والبحارة! ليطفأ نور تلك المنارة، منارة عدن، فتصطدم وتغرق المراكب في البحر. لتقفل أبواب شركات الفحم، فتقف وتبطل حركة البواخر بين الشرق والغرب، وتنقطع إذ ذاك هذه الصلة الحديثة بين القارات كلها.
لا بد إذن من البرق والنور والبخار في عدن، ومن يد تديرها وتحافظ عليها وتحميها. واليد اليوم بريطانية، وقد تكون غدًا يابانية، أو عربية، لكن الغد لله. يهمنا اليوم ويهم العالم أجمع أن تبقى هذه المحطة الكبيرة، هذه الصلة المهمة، في كنف الأمن والنظام. ولو كان فيَّ ذرة من اليقين أن الإمام يحيى يستطيع أن يقوم مقام البريطانيين لما فضلت أحدًا وطنيًّا كان أو أجنبيًّا عليه. إني آسف أن الروح العربية تقلَّصت في عدن واضمحلَّت، وإنه ليحزنني ويحزنك أيها القارئ العربي — وقد أشرفنا على شيء من مجد غابرها — أن نراها في يد الأجانب. ولكننا في زمان سيده المال، وحاكمه الاقتصاد، ومديره الأول العلم. وليس عندنا من الثلاثة ما يؤهلنا اليوم لوظيفة صغيرة في معمل هذا الزمان الأكبر.
قلت الإنصاف، وهاك مثالًا واحدًا من آفاته: في عدن صيارفة وتجار عديدون يتاجرون بالأوراق المالية والنقود، ولكن ليس فيها غير مصرف واحد هو فرع لمصرف الهند — البريطاني — المشهور، وهذا المصرف لأنه الوحيد يستبدُّ بالتجار استبدادًا يعرقل التجارة، ويضعف أسبابها. قد شكا كثيرون منهم الأمر إلى القناصل علَّ مصرفًا أميركيًّا أو فرنسيًّا أو إيطاليًّا يفتح له فرعًا هناك؛ فيخفف بالمناظرة استبداد واستئثار مصرف الهند. ولكن دون ذلك صعوبات ظاهرة وخفية، ولحكومة عدن ولا ريب يد فيها.
إني لا أرى عذرًا لمثل هذا الاستئثار الذي يعدُّ صغارة في الاستعمار. بيد أن من العدل ألا أفرد الإنكليز بالذنب، وأخصهم دون سواهم بالتثريب. فالفرنسيون في جيبوتي مثلًا، والإيطاليون في مصوع هم من هذا القبيل مثل الإنكليز في عدن. قد لا تجد تاجرًا واحدًا إنكليزيًّا أو إيطاليًّا في جيبوتي، فكيف بمصرف غير فرنسي؟ وقد لا تجد عاملًا فرنسيًّا أو إنكليزيًّا في مصوع، فكيف بمصرف غير إيطالي؟ إن هذه الروح الأوروبية الصغيرة في التجارة والاستعمار، وإن شئت فقل روح الاستئثار والاحتكار، لمن أول أسباب الانحطاط الأوروبي في الشرق. فإذا كنت لا تطيق أخاك الأوروبي مزاحمًا، إذا كنت تضن عليه بفرصة يغتنمها فيستثمرها مثلك في بلاد غريبة، فكيف تطيق الوطني أو تحسن به الظن في الأقل؟ وبأي حق — والحال هذه — تطلب منه الثقة والاحترام؟ إني مخلص لك أيها الأخ الأوروبي في ما أقول. قد يطيعك الشرقي ويخدمك، ويكون لك جاسوسًا على أخيه، ولكنه في قلبه يكرهك ويحتقرك. وليس هو وحده المسئول الملوم. عد إلى نفسك أيها الأخ الأوروبي، وفكر فيما أقول؛ إني أبغي لك ولابن الشرق خيرًا في بلاده مشتركًا، متبادلًا، متساويًا.
لكن روحك أيها المستعمر لا تعجب المنصفين من الأمتين. كأني أسمعك تقول: جئنا هذه البلاد وفتحناها وعمَّرناها، وليس لغيرنا الحق أن ينتفع منها وفيها انتفاعنا. هذه هي روح الاستعمار الأوروبي في عدن، وفي جيبوتي، وفي مصوع، وقل إن شئت في الهند، وفي الجزائر، وفي طرابلس الغرب، وهي الروح التي تفسد على الشرقي أهم مظاهر الحكم الغربي، أي الإدارة والنظام، فحبذا الحكمة في أطماعهم تلطفها، وحبذا الحصافة في استئثارهم تخفف من عواقبه الوخيمة. لست ممن يغمضون عيونهم ويضربون، ولا ممن يولون المغرب وجوههم ويكرهون. ولكني أهاب على الأوروبيين من يوم يعم فيه البلاء؛ فينهض الشرق — الشرق العاقل، والشرق المجنون، الشرق المتعصب، والشرق المتساهل — ينهض نهضة واحدة على المدنية الأوروبية كلها؛ بحذافيرها؛ لأنه لا يرى فيها غير سيئاتها، غير الشره والشهوات، والاستئثار والمنكرات. بودي قبل أن تأزف تلك الساعة أن يعدل الأوروبي، ويعقل الشرقي، فيتفاهم الاثنان ويأتلفان، وينتفع الواحد من الآخر.
قلت: إن الأمن والنظام في عدن ركنان ثابتان، ولا شك أن البريطانيين قد بذلوا في سبيلهما قسطًا من القوة جسيمًا، ومثله من السياسة والدهاء، ثم بتضحيات من مال ورجال ليس أكرم منهم فيها. بيد أن احتلالهم عدن واستيلاءهم على النواحي المجاورة لها لا يخلوان من الحيف والخداع.
قد علموا عند احتلالهم عدن بأنه يجب لحمايتها جيش كبير يقيم فيها. ولكن إدارة شركة الهند يومئذ فضَّلت تلك الخطة التي تقدَّم الكلام عليها، ثم عندما تسلَّمت الحكومة البريطانية زمام الأمور في الهند، استخدمت بعض القوة في تأييد مركزها في عدن، ورأت أنها تحتاج إلى قوات بحرية وبرية ترابط فيها. وقد تعجز مع ذلك عن الحماية إذا لم يكن لعدن منطقة كالدرع تصونها من تعديات العرب الذين يحيقون بها من جهات ثلاث: من الشرق، والغرب، والشمال، ويحاربون كالقرود، ويعتصمون بالجبال. فاتخذت لذلك سياسة لينٍ تدعمه الشدة، وباشرت المفاوضات، وابتاعت من الأراضي ما لم تستطع الاستيلاء عليه بالسياسة ولم تشأ أخذه بالقوة. فتم لعدن الدرع الذي تحتاجه، وهو خط يمتد من الغدير على البحر غربًا إلى دار الأمير شمالًا، ومنها شرقًا بشمال إلى أم العُمُد بحرًا. ثم أقامت في هذه المنطقة البريطانية الاستحكامات العسكرية، ونقلت إليها الجنود من الهند، وظلت مع ذلك في خطر دائم من العرب المحيقين بها، من الصُّبَيْحة والحواشب واليوافع وغيرهم.
فما العمل إذن؟ قد يكلفنا الدفاع عن عدن آلاف الجنيهات يوميًّا إذا فرضنا أنه يتعين علينا أن نقيم فيها دائمًا عشرة آلاف جندي. وقد يكلفنا الدفاع عن المنطقة التي ظنناها درعًا منيعًا آلافًا أُخَر. ولكني أقف عند حد في النفقات لا يتجاوز إلا القليل من هذه القيمة كل يوم، وأفترض أن الحكومة البريطانية تستطيع بذلك أن تدوِّخ العُربان وتؤدبهم، وتستولي على بلادهم، فتدخلها في منطقة الاحتلال. ولكنها تضطر عندئذ أن تضاعف قواتها العسكرية، فتتضاعف النفقات؛ لتدفع عن هذه المقاطعات غارات عرب الجبال من زيود وشوافع شرقًا وشمالًا. النتيجة: إننا كلما توغلنا في اليمن زادت النفقات والأخطار. فالولاء إذن خير من العداء. على أن لا بد لنا من قوة نرهب بها أولًا من نبغي ولاءه، فإذا كسرنا هذا الأمير، ونكَّلْنا بذاك الشيخ، ثم صافحنا ووالينا وبذلنا المال مشاهرات، كان لنا من الصداقة والإذعان ما نريد.
وكذلك كان. مرت على عدن بعد احتلالها سنون فادت فيها إنكلترا بكثير من المال والرجال. حاربت القبائل، ثم عاهدت أمراءهم واحدًا واحدًا. ضربتهم، وفرَّقتهم، وأقامت الحدود بينهم، ورفعتهم إلى مقام السلاطين، واشترت صداقتهم بالمشاهرات المالية. وما هي تلك المشاهرات بالنسبة إلى نفقات الحرب والدفاع؟
إليك جدول الحساب الآخر. في المنطقة المحمية تسع ولايات، أو إمارات، أو سلطنات. فلو فرضنا أن كل أمير يتقاضى الإنكليز أربعمائة روبية كل شهر — وهي أكبر المشاهرات، إذا استثنينا مشاهرة سلطان لحج — وأن في كل إمارة زعماء، رجال الأمير أو أعداءه، يتقاضونهم كذلك مثل هذه القيمة، فيبلغ ما تدفع عن ولاء الأمراء التسعة ورجالهم سبعة أو ثمانية آلاف روبية كل شهر، أي خمسمائة ليرة إنكليزية. وإذا فرضنا أن في الافتراضين، أي حساب الجيش، وحساب الأمراء، بعض المبالغة فهي دون الحقيقة لا فوقها. إن النسبة بين الاثنين في كل حال لا تتغير، عشرون ألف جندي للدفاع يقوم مقامهم عشرة أمراء أو سلاطين. هذه هي النسبة الأساسية. مَن الكاسب إذن؟ أمن يدفع المشاهرات أم من يقبضها؟
إنها من الإنكليز سياسة العزم، تتلوها سياسة الحكمة، أي المبدأ المرن المقرون بالقاعدة التجارية في الأشغال. فهم لا مراء تجار لا يبارون، كما أنهم ساسة محنكون. فإذا خيِّروا بين نفقات الجيش والمشاهرات يختارون الثانية ولا غرو. إنها إذا اعتبرنا مصلحة بريطانيا أولًا، ثم العالم الذي تهمه محطة المواصلات البرقية والبخارية، لكانت النتيجة صفقة غانمة. أما إذا اعتبرنا مصلحة العرب فيعترينا الأسف والغم؛ لأنهم الخاسرون في كل حال، الخاسرون وإن تضاعفت الأموال.
(٣) من أجل شركة الهند
ليس القصد من هذه الكلمة أن أجدد ذكر تلك المسألة السياسية الخطيرة التي يظن الناس أنْ قد حل عُقَدها مؤتمر لوزان. وإنما قصدي أن أعود بالقارئ إلى تسعين سنة مضت، فأقص عليه قصة تتعلق بعدن، وبشركة الهند الشرقية، وبدفاع بريطانيا عن الدولة العثمانية.
من الحقائق البارزة التي كانت تشغل الدولة وبريطانيا في تلك الأيام أن محمد علي باشا بوساطة ابنه إبراهيم كان قد استولى على سوريا واحتل من البلاد العربية عسيرًا، وتهامة، وجزءًا من اليمن. فسعت الدولة أن تخرجه من هذه الأقطار فلم تفلح. ورأت بريطانيا أن مطامع محمد علي باشا في البلاد العربية لا تلتئم مع مصالحها، ولا سيما ما كان يتعلق منها بالهند، وبشركة الهند الشرقية، فامتشقت الحسام، أو بالحري حركت الأسطول دفاعًا عن الدولة، وكانت هي العامل الأكبر في إخراج المصريين من البلاد السورية وفي انسحابهم من اليمن.
ثم عقد مؤتمر لندن، فأبرمت في ١٥ تموز سنة ١٨٤٠ معاهدة كادت تُفضِي إلى الحرب بين فرنسا وبريطانيا، أعيدت بموجبها سوريا إلى الدولة العلية، وأثبت محمد علي في ولاية مصر. ولكان قضي على محمد علي في مصر كذلك لو فازت في ذاك المؤتمر السياسة الفرنسية التي كانت تخشى مقاصد الإنكليز الخفية. لم تكن تلك المقاصد يومئذ غيرها اليوم، وقد كشف الزمان عنها الحجاب، وحققت بعضها الحوادث. فها قد انفتحت طريق البر من مصر إلى سوريا، فالعراق، فالهند.
أما الطريق التي كانت تستوجب الاهتمام مباشرة، فهي طريق البحر. وقد كانت بريطانيا في تلك الأيام، أيام البخار الأولى، تفتش عن مكان في البحر الأحمر أو البحر العربي يصلح لأن يكون مستودعًا للفحم؛ لتموين البواخر في طريقها إلى الهند ومنها. فرأى رجال شركة الهند الشرقية أن عدن أصلح مكان لهذه الغاية، وظلوا عشرين سنة يحومون عليها، ويسعون بالمعاهدات وبالسياسة أن يرفعوا فوق قلاعها العلم البريطاني. وكان إبراهيم باشا وهو في تهامة يبغيها كذلك، ويخابر سلطان لحج بخصوصها. أوجس الإنكليز خوفًا من إبراهيم، فاقترنت مصلحتهم بمصلحة العثمانيين.
كتب رئيس الوزارة البريطانية يومئذ اللورد بالمرستون إلى محمد علي باشا سنة ١٨٣٨ يقول إن لا حق له في البلاد العربية، فيجب أن يسحب جنوده منها. ثم عقد معاهدة مع الدولة تخوِّل الإنكليز الاتجار في الممالك العثمانية، وطلب منها عدن لتكون لهم مركزًا تجاريًّا في تلك الأنحاء، على أنهم كانوا يبغونها مستودعًا للفحم كما قلت. وما هي أهميتها للدولة في كلا الحالين؟ عدن، أين هي عدن؟ وراء ثلاثة بحار، في آخر البلاد العربية، تبعد ألوف الأميال عن الأستانة، ولا سيادة حقيقية للدولة فيها.
منح السلطان عبد المجيد الفرمان. ولكن شركة الهند الشرقية كانت تعلن أن السيادة الحقيقية في عدن هي للعرب، وأن الفرمان وحده لا يكفي، فينبغي للاحتلال حادث يتذرعون به. كانت المراكب البريطانية تمر في تلك الأيام بعدن للمتاجرة، فحدث ذات يوم أن مركبًا شراعيًّا غرق هناك، فسطا عليه العرب ونهبوه، فبعثت إدارة الشركة القبطان هينس على مركب حربي في ثلاثمائة من الجنود يطلب التعويض، فجاء إلى عدن وفاوض السلطان، سلطان لحج، الذي كان مقيمًا فيها، فأبى سموه، فاحتج الإنكليزي بالفرمان، فاستشاط السلطان العربي غيظًا. ومن هو سلطان العثمانيين؟ وهل يهب بلادًا ليست له؟
ضرب القبطان هينس عدن في ١٩ ك٢ سنة ١٨٣٩، فأمر السلطان الحامية بالدفاع، فحدث قتال لم يدم طويلًا، سلَّم العرب، ولكن سلطان لحج في ازدرائه الخط الهمايوني، ومقاومة الفاتحين تمكَّن من عقد معاهدة معهم حفظت له بعض حقوقه، وقطع الإنكليز معه عهدًا بأن يدفعوا له تعويضًا عن الاحتلال ستة آلاف ريال مسانهة، كانت بداءة تلك المشاهرات التي تبلغ اليوم نحو مائة ألف روبية.
احتلَّ الإنكليز باسم شركة الهند الشرقية قسمًا من عدن يدعى التواهي، ولم تكن يومئذ غير أعشاش لصيادي السمك، لا يتجاوز سكانها الستمائة نفس. وظل السلطان مقيمًا فيها مدة قصيرة، ثم تراخت العلائق بين السلطان ووكيل بريطانيا، فحدث قتال ثانٍ كان للإنكليز رغبة فيه — يقول عرب عدن: كادَ الإنكليزُ كيدَهم المعروف — فانتصروا على العبادلة، أي قبيلة السلطان، وأخرجوهم من التواهي، واستولوا على عدن استيلاءً تامًّا. منذ ذاك الحين لم يأذنوا لسلطانهم أن يكون له في عدن بيت ولو صغيرًا، ثم جددت المعاهدة التي من شروطها:
- أن يعترف السلطان بسيادة الإنكليز، ويقبل حمايتهم في مملكته.
- أن تكون البلاد مستقلة في داخلها استقلالًا تامًّا.
- أن تكون المقابلات بين العرب والسلطان رأسًا دون تدخل الإنكليز. «قد كان هذا التدخل أحد أسباب الخلاف بين الفريقين».
- أن يكون له الحق بأن يصدر ما شاء من القوانين في بلاده.
-
ألَّا يعقد معاهدات مع الأجانب (أمراء العرب لا يعدون من الأجانب).٨
- أن يكون له راية خاصة وجند، وحق بمنح الألقاب والرتب.
- أن تكون بوابة عدن الحدود بين المتعاهدين، وأن يكون ما بعدها بما فيها بلدة الشيخ عثمان من أملاك سلطنة لحج.
- ألَّا يجوز لأجنبي التملك في لحج أو الدخول إليها بدون إذن من السلطان تعطيه الحكومة البريطانية.
الخط تحت الكلمات الأخيرة مني لألفت النظر إليه خصوصًا، تأملها ترى أن فيها مثالًا للقاعدة المرنة في السياسة، لم يقل الإنكليز: بدون إذن تعطيه الحكومة البريطانية، وهي حقيقة الحال؛ لأنهم يتحاشون أن يمسوا كرامة السلطان، فمطوا البند ليبرر السيادتين ويرضي الفريقين. أنت يا صاحب السمو صاحب الأمر، ولكننا نحن خدامك نتولى أمره، نتوكل عنك في إعطاء الإذن. وهو للآن كذلك. إذا وصل السائح إلى عدن، وشاء زيارة سلطان لحج يتحتم عليه أن يقوم بواجبين: أولهما: أن يكتب كتابًا إلى سموه يستأذن بالزيارة، والثاني: أن يطلب الإذن من دار الاعتماد. فإذا كان هناك من مانع يعلمون سموه بذلك، ويرفضون الإذن عنه. وإلا فيمنحونه ويحددون مداه ومدته، فلا يتجاوز حامله حدود لحج ولا يقيم فيها غير أيام معدودة.
أشرت في الفصل السابق إلى صعوبة الدفاع عن عدن إذا كانت وحدها البلدة المحتلة ما لم تخصها الحكومة بفيلق وبعض المدرعات، وإذ ذاك تضطرها الحاجة إلى مكان يقيم الجنود فيه. وبكلمة بسيطة ضاقت دونهم عدن، فتطلعوا إلى بضعة أميال شمالًا، وفيها بلدة الشيخ عثمان، فطلبوها من السلطان فرفض طلبهم. قالوا: نشتريها، فقال: لا.
لجأت إذ ذاك دار الاعتماد إلى وسائل لا تحللها الحكومة البريطانية في بلادها. كان للسلطان شقيق يحب المال أكثر من حبه الشيخ عثمان، وكانت لهذا العبدلي يد في إدارة أمور السلطنة، معززة بثقة أخيه، فتقرب الإنكليز منه، وتم سنة ١٨٨٢ الاتفاق بينهم وبينه سرًّا على التنازل عن الشيخ عثمان مقابل مبلغ قدره عشرون ألف ريال (أربعون ألف روبية)، أي ألفان وخمسمائة ذهب إنكليزي. فأمضى صك البيع بالنيابة عن أخيه السلطان، فعدَّه الإنكليز صكًّا شرعيًّا، وحددوا بموجبه حدودهم التي شملت تلك القرية، وهي على مسافة عشرة أميال من عدن.
أما السلطان فلما علم بالأمر طرد أخاه من البلاد، وصادر أملاكه، وحرمه حقوقه في الأسرة المالكة. ولكن ذلك لم يؤثر في خطة الإنكليز وسياستهم. دخلوا الشيخ عثمان، وأقاموا فيها حامية قوية لم يستطع السلطان ولا خلفاؤه أن يقاوموها. ولم يكن احتجاجهم الدائم على شرعية البيع ليجدي نفعًا، فرَضُوا بعد مدة بقسمة الجبار فيهم، وعقدوا معاهدة جديدة مع الإنكليز قبلوا فيها أن تكون دار الأمير، وهي قرية تبعد نصف ساعة عن الشيخ عثمان، الحدود الفاصلة بين لحج والحكومة المحتلة.
ومنذ ذاك الحين حتى اليوم لم تضطر هذه الحكومة في الدفاع عن عدن إلى توسيع الحدود مرة أخرى، فلا يزال جمرك السلطنة اللحجية في دار الأمير.
أما الشيخ عثمان فقد أصبحت بلدة عامرة بالعساكر الهندية والحانات، وبالصوماليات السافرات، وبأنواع الموبقات. وفيها كذلك مقام الولي حاتم بحر، وبساتين أغنياء عدن، وجنينة حيوانات سكانها غزال، وقنفذة، وسعدان.
(٤) سلاطين لحج
في سنة ١٧٠٩، عندما جاءت البعثة الفرنسية إلى اليمن، كان حاكم عدن مستقلًّا عن إمام صنعاء. وبعد ست وعشرين سنة من ذاك الحين استولى على عدن أول سلطان من سلاطين لحج. كان هذا الرجل قائدًا من قواد الزيود، طامعًا بالسيادة والمجد، متساهلًا على ما يظهر في الأمور الدينية. أقامه إمام صنعاء عاملًا على اليمن الأسفل، فتوسع بالإجازة الإمامية، وأقام نفسه حاكمًا مطلقًا مستقلًّا، بل أقام نفسه سلطانًا. وبما أن عرب البلاد التي استولى عليها من الشوافع، فلا يعززون حاكمًا زيديًّا ولو أطاعوه، نبذ من أجلهم وفي سبيل مطامعه مذهب أجداده، واتخذ المذهب الشافعي صراطًا إلى النجاح قويمًا. وهو مؤسس سلطنة لحج.
ثم خلفه في الحكم أمراء من عرب العبادلة الذين اشتهروا بالشجاعة والعدالة، وبحبهم الزراعة التي هي حتى اليوم مصدر ثروة لحج الصغيرة، وموضوع اهتمام سلاطينها. والعبادلة من اليمن الأعلى، زيديو الأصل كما تبين يمتون بنسبهم إلى عرب حمدان.
من سلاطين لحج أربعة مشهورون: أولهم محسن بن فضل الذي احتل الإنكليز عدن في عهده. وقد كانوا عقدوا في سنة ١٨٠٢ أول معاهدة ولائية تجارية مع والده السلطان أحمد، فاستمرت مرعية إلى سنة ١٨٢٧، فنقضها السلطان محسن. ولكنه غُلب في نهاية أمره، فاضطر أن يعقد وإياهم معاهدة عندما احتلوا عدن سنة ١٨٣٩ كما أوضحت في الفصل السابق. ومن بنود تلك المعاهدة بندان لا نرى لهما غير الأثر الضئيل في المعاهدات الحديثة، أولهما: ألَّا يحق للأجنبي، وإن كان موظفًا بريطانيًّا في حكومة عدن، أن يدخل إلى لحج بدون إذن من سلطانها، والثاني: أنَّ من يرتكب جرمًا من البريطانيين أو من رعاياهم في البلاد يحاكم بموجب شرائعها.
قبل الإنكليز في البداءة بهذين البندين، ثم سعوا في توسيع سيطرتهم شيئًا فشيئًا، فعدلوا البند الأول بل نقضوه بإضافتهم إليه تلك العبارة الاعتمادية، فقالوا: لا يحق لأجنبي أن يدخل إلى لحج بدون إذن سلطانها، والإذن يطلب من دار الاعتماد بعدن. وقد أسسوا محكمة قاضيها مسلم هندي، فقضت على البند الثاني الذي يختص بمحاكمة الأجانب.
كان السلطان محسن غيورًا على استقلاله، توَّاقًا إلى السيادة الواسعة النطاق، محسنًا إلى العشائر، محبًّا للعلم والعلماء. ولكنه كان متقلبًا في سياسته، يترقب الفرص لتحقيق مقاصده التي لم تتفق يومًا واحدًا في مقاصد الإنكليز. غلبوه أولًا وثانيًا في سنة ١٨٣٩ عندما احتلوا التواهي، وفي السنة التالية عندما حاول أن يخرجهم منها، فدارت عليه الدوائر، وكان هو من الظاعنين. أخرجوه من عدن، ولم يأذنوا بأن يكون له بعدئذ بيت فيها، ولا أذنوا بذلك لأحد من خلفائه.
أما خلفه السلطان أحمد بن فضل بن محسن قرين السلطان محسن في الذكاء، وحب العلم والعلماء، فقد كان أشد حنكة ودهاءً من أسلافه، ولكنه لم يكن مثلهم كريمًا، احترمه البريطانيون ظاهرًا، وتعمَّدوا في معاملته ما كان من خلقه أي التكتم والمواربة.
هو ذا السلطان أحمد عدو الترك، وأول من سعى على ما أعلم في سبيل الوحدة العربية. فقد دعا أمراء العرب إلى مؤتمر عام يعقد في إحدى عواصم الجزيرة للنظر في مصير الأمة العربية وتوحيد كلمتها وسياستها. ولكنه بعد أن أرسل منشوره إلى الأمراء، عدل عن عمله لأسباب مجهولة. وقد تكون الحرب التركية الإيطالية أحد تلك الأسباب؛ لأنه تغير في سياسته وفي عواطفه بعد تلك الحرب تغيرًا سريعًا مفاجئًا.
كلما جئت على ذكر الأتراك في البلاد العربية أراني مُكْبِرًا السيد محمد الإدريسي وثباته في مبدئه وجهاده؛ فقد كان الإمام يحيى عدو الأتراك فصار صديقهم في الحرب العظمى. وكذلك كان سلطان لحج السلطان أحمد بن فضل، فتحول في الحرب التركية الإيطالية عن سياسته ومبادئه، كأنه لم يسعَ سرًّا وجهرًا في تقويض السيادة التركية في البلاد العربية. وقد كان من أمراء العرب الذين ساعدوا الدولة بالمال أيضًا، فدُعِيَ لذلك إلى مصر ليقابل مندوبها السامي رءوف باشا، فلبى الدعوة، وعاد من القاهرة يحمل وسامًا من أوسمة الدولة، ويحمل غراسًا من أرض الفراعنة.
إن للسلطان أحمد مساعي مبرورة في تحسين الزراعة في لحج؛ فقد جلب الأغراس من مصر ومن الهند. وكان في اهتمامه بها مثالًا للفلاح عاليًا. وقد كان شغفًا كذلك بالأوسمة، فصكَّ منها باسمه، وشرع يمنحها الناس من عرب وهنود وإنكليز. ثم باشر تنظيم المالية والجمرك، فسَنَّ قوانين عديدة، حالت دون تنفيذها الحرب العظمى. لا مرية في القول إنه كان سلطانًا كبيرًا ذا همة قعساء، وذكاء ودهاء. هو السلطان الزراع السياسي، محب الأبهة والأشجار الغريبة. ولكنه لم ينجح في دار الاعتماد نجاحه خارجها.
وما كان في خلفه ما يومئ إلى التوفيق والتحسين من هذا القبيل.
كان السلطان علي بن محسن بن فضل سلف السلطان الحالي رجلًا ورعًا تقيًّا، يحترم علماء الدين والسادة الأشراف احترامًا جزيلًا، ولم يكن له إرادة تستقيم وتشتد في السياسة والرئاسة. ولكنه لم يهتم لإدارة الملك، فاتَّكل في ذلك على ابن عمه محسن بن فضل شقيق السلطان الحالي.
هو السلطان عبد الكريم فضل العربي الصميم في حديثه وأخلاقه، ولا أقول في ملابسه التي هي هندية أوروبية. أما ملامحه العربية فمثل أخلاقه وحديثه لا غبار عليها. هو نحيل الجسم، مستطيل الوجه، دقيق الأنف، غائر العين، عصبي المزاج، وفي الخامسة والأربعين من العمر. لكنه يظهر أكبر من ذلك؛ لما في وجهه من تجعُّد وقتام، ولما قاساه أثناء الحرب من الشدة والأحزان. وهو مثل أخيه الباسل، وأبيه سلطان لحج الكبير، يكره النفوذ الأجنبي، ويسعى سعيًا هادئًا سلميًّا في مقاومته وتقويضه. ولا عجب إذا كان من مساعيه أن يستعيد بعض الحقوق التي نالها السلطان فضل أبوه فأضاعها من خلفه.
على أن السلطان عبد الكريم يفتقر إلى شيء من شدة أبيه وطموحه، ومن نشاط أخيه وعزمه. فهو — والحق يقال — أقرب إلى الأدب والزراعة منه إلى السياسة والإدارة. له ذوق في الموسيقى، ويحسن بعض الإحسان العزف على البيانو، وله رغبة في المطالعة، فيهتم خصوصًا بتاريخ العرب والإسلام. وهو مثل السلطان أحمد شغف بالزراعة، يقضي ساعات من يومه في بساتينه؛ لذلك قيل فيه على ما أظن إنه قليل الاكتراث، ضعيف الإرادة. وقد يتخلل عزمه — وهو عصبي المزاج — فترات يسيء الناس فهم أسبابها ونتائجها.
ومن مزاياه أنه يحترم الرأي، والحرية الفكرية في الناس. أما علاقته مع البريطانيين، فالمداراة أظهر ما فيها. على أن له في دار الاعتماد مقامًا محترمًا، وكلمة مسموعة، فيستشيره أولو الأمر في كثير من المسائل التي تختص بالعشائر وأحوال البلاد الداخلية.
إن في لحج نهضة في التعليم تذكر، وهي على صغرها سيدة النواحي التسع المحمية، سيدتهم معنويًّا وسياسيًّا أيضًا. فإن أم السلطان عبد الكريم من اليوافع، وبينه وبين العوالق ولاء وثيق العرى، وله على الصُّبَيحة والحواشب سيادة لا بد أن تمتد إلى سواهما.
إن ولي العهد وهو يُنتخب في عهد السلطان الحاكم يصبح منذ ذاك الحين مقيدًا بالسياستين: سياسة لحج، وسياسة عدن، ورهين الإرادتين: إرادة المعتمد، وإرادة السلطان التي قد تكون — وإن كانت وطنية — جائرة مثل الأولى. هو ذا موطن الضعف والخلل في تلك الحكومات العربية الصغيرة كلها. لا أقول إن الإنكليز اخترعوا هذه الطريقة في الإرث، ووضعوا قواعدها، ولكنهم — ولا شك — ينتفعون بها للتدخل في شئون البلاد.
حبذا لو ساعدوا في تغيير هذه الطريقة؛ فيكتسبوا حب الناشئة العربية الراقية، وثقة أولياء الأمر في البلاد، ولا أظنهم يفقدون في ذلك شيئًا من حقوقهم الشرعية أو من نفوذهم الصالح المفيد. أما غير ذلك من حق أو نفوذ فهو يضرُّ بهم أكثر من ضرره بالعرب. أجل، إن الحقيقة البليغة الرائعة التي يجب أن تتدبرها اليوم وزارة المستعمرات بلندن هي هذه: كلما قلَّ تدخُّل بريطانيا في شئون الأمراء الوطنية والخاصة تعزَّز مركزها لديهم. أو بالأحرى كلما امتنعوا — حكمة ونزاهة — عن مد يدهم إلى ما وراء حدودهم المعروفة ثبتت قدمهم ضمن تلك الحدود، ولا أظنهم يبغون أكثر من ذلك.
(٥) لحج في الحرب العظمى
في باب المندب، على مقربة من رأس البر اليمني، جزيرة صغيرة تدعى الشيخ سعيد، قد جاء ذكرها في تقارير عدن الرسمية أثناء الحرب، وسيجيء ولا شك ذكرها في المستقبل في تقارير وصكوك لا يطلع عليها غير القليل ممن تهمهم امتيازات النفط والمعادن.
وكانت السلطة البريطانية فيها قد احتاطت للأمر بما لديها من قوات الدفاع القليلة، فأمرت بنقل الحامية من عدن إلى الشيخ عثمان ثم بالتقدم إلى لحج. جاء في التقارير الرسمية: «إن شدة الحر، وقلة الماء، وفرار الهجانة المأجورين أخرت الجنود في الطريق، وحالت دون الغاية المقصودة.»
على أن طليعة الجيش البريطاني وصلت مع ذلك إلى محجَّتها في ذاك اليوم، ونازلت الأتراك خارج لحج قبل أن تصل الجنود إليها، فدارت الدائرة على البريطانيين؛ فتقهقروا عن لحج مهزومين، فدمرها الأتراك في ٥ تموز سنة ١٩١٥ ونهبوها، ثم زحفوا على الشيخ عثمان، فاحتلوها في اليوم التالي.
ولكن النجدة التي وصلت بعدئذ إلى عدن أخرجت الترك من الشيخ عثمان في ٢٠ تموز، فعادوا إلى لحج، وتحصنوا فيها، وظلت شرذمات منهم في أم العُمُد والوَهط، فحاول الإنكليز مرارًا أن يخرجوهم منهما فلم يتمكَّنوا إلا بعد أن أنجدتهم عشائر العرب التي استنجدوها. ولكنهم لم يستطيعوا ولا حاولوا بعدئذ أن يخرجوا الأتراك من لحج. فظلوا فيها إلى نهاية الحرب.
هذا ما وصل بالطرق الرسمية إلى الدوائر الحربية في الغرب من أخبار تلك الزاوية العربية القصية، وليس فيه كلمة عن نكبة لحج، وعما حل بالأسرة المالكة وبسلطانها حليف بريطانيا. فجئت أروي الخبر كما سمعته وتحققته من مصادر شتى هناك.
خرجت جيوش علي سعيد باشا من ماوية، وسقطت على لحج، فاستنفر سلطانها الورع بعض العشائر المجاورة فأنجدوه، وخرجوا وهم بضعة آلاف يلاقون الأتراك، وهم ضِعْفاهم عددًا، وأضعافهم عدة. فاصطدم الجيشان قرب الدكيم، على مسافة عشرة أميال من لحج، فانهزم اللحجيون. ولذلك أسباب ثلاثة: لم يكن معهم من عتاد الحرب غير القليل، لم يكونوا على شيء من النظام، لم تصلهم النجدة من الإنكليز إلا بعد الهزيمة. وقد جاء في التقارير الرسمية أن لإبطاء تلك النجدة ثلاثة أسباب أيضًا، ولكن هناك سببًا آخر غير القيظ، وقلة الماء، وفرار الهجانة، فقد سمعت في عدن أن الجنود الهندية عصوا يومئذ ضباطهم؛ لأنهم كرهوا أن يحاربوا إخوانهم المسلمين. والحقيقة التي لا ريب فيها أنهم أبطئوا في الإنجاد ثم انهزموا.
دخل الأتراك إلى لحج فدمروا قصور السلاطين، ونكلوا بأهل المدينة، ففر إلى عدن من سلم من الأسرة المالكة وكثيرون من الأهالي. وعندما خلَّف السلطان عبد الكريم السلطان عليًّا كان من أول أعماله أنه احتج احتجاجًا شديدًا على بريطانيا؛ لأنها لم تقم بواجب المعاهدة بينها وبين أجداده، فقبلت حكومة لندن الاحتجاج، وعزلت حاكم عدن وقائد الحامية فيها.
أقام السلطان والأسرة المالكة في عدن مدة الحرب كلها، وهم يستعينون على الدهر بما كانت تدفعه الحكومة لكل منهم، في حين أن أملاكهم وقصورهم وبلادهم كانت في حوزة الأتراك يتمتعون بها وبخيراتها. حتى أصبح هؤلاء في غنى عن الإمداد والتموين من مركز القيادة العثمانية في داخل اليمن. بل كانوا بعد أن استقر أمرهم في لحج على شيء من اليسر، وجانب من الأمن والاطمئنان يُستغرب مثله في أيام الحرب بين المتحاربين.
والسبب في ذلك بُعد الفريقين — على ما أظن — عن ساحة الحرب الكبرى، وعن مركز حكومتيهما. كان الجنود والضباط يسمعون — ولا شك — بويلات تلك الأيام وأهوالها، ويحمدون الله لما بينهم وبين تلك الويلات من المسافات. فلما أمن الإنكليز على مركزهم في عدن والشيخ عثمان تركوا لحج للأتراك. ولما أمن الأتراك على لحج ونواحيها تركوا عدن للإنكليز. قنع كل بما ملكت يده، وكُللت القناعة بكرم الأخلاق.
أجل، بينا كانت رحى الحرب تطحن الإنسانية في شمالي فرنسا، وتملأ الأرض هولًا وقبورًا، كان الترك والإنكليز في هذه الزاوية المباركة من اليمن السعيد يتبادلون المعروف والإحسان، وكان للقائد الجركسي علي سعيد باشا الفضل الأكبر في ذلك بشهادة الإنكليز أنفسهم. أما العرب فلا يزالون يذكرونه اليوم بالفخر والإعجاب.
قلت: إن شيئًا من اليسر عاد إلى لحج بعد نكبتها؛ لأن الأهالي والعساكر شرعوا يزرعون ويشتغلون؛ فازدهت تلك البقعة الخصبة التي تستقي من فرعي وادي دُبن بالاخضرار والثمار. أما عدن — وهي في فم البركان — فلا ترى فيها ولا في جوارها عشبة خضراء. فتبادل القائدان السلام، ثم الكلام، ثم: — هذه بقولاتنا نرسلها إليكم كل يوم على الرأس والعين. فشكر الإنكليز الترك قائلين: وهذا الأرز والسكر لكم منهما ما تبغون. وهذه فوق ذلك السكاير. فهتف عسكر الدولة: عاش الإنكليز.
كذلك تم الصلح بين الأحلاف والدول الوسطى، أو بالحري بين ممثليهم في عدن وفي لحج؛ قبل أن انتهت الحرب بسنتين. ولما أعلنت الهدنة دخل علي سعيد باشا إلى عدن ليسلم سيفه إلى الإنكليز؛ فاستقبل فيها استقبالًا جميلًا. دخل المدينة لا كالمهزوم، بل كالفاتح المنصور.
(٦) التمدن الحديث في لحج
كتبت بعد وصولي إلى عدن في طريقي إلى صنعاء كتابًا إلى صاحب السمو السلطاني عبد الكريم بن فضل؛ أرغب إليه في التشرف بزيارته. وكتبت بوساطة قنصل أميركا إلى دار الاعتماد أستأذن بذلك، فجاء في اليوم التالي جواب السلطان مرحبًا بي، ثم جاءني بعد يومين من معاون المعتمد كتاب ضمنه إذن باسمي واسم رفيقي وإذن آخر باسم القنصل الذي شاء أن يرافقنا.
ركبنا من محطة عدن قطارًا عسكريًّا، خطه ضيق، وعرباته قديمة، جيء به من الهند، وقاطراته أثر من الآثار في تاريخ البخار. فرقصت بنا وهي ترجرج وتقرقع في أرض سبخة قريبة من البحر، ومرت بآكام من الملح مستخرج منه، ثم بواحة الشيخ عثمان بين صفوف من مقاهيها. ومنها إلى دار الأمير، أي الحدود بين عدن ولحج، ثم صُبر، فجلاجل، فنوبة الهراني، فالحوطة. وكلها ما عدا العاصمة، ودار الأمير أسماء لأكواخ من القش واللبن وسط شيء من شجر الأسل، وأميال من القفر الذي تهب فيه رياح البادية تحمل السَّمُوم والموت من الربع الخالي. ويمتد خط الحديد من الحوطة إلى مكان يبعد ستة أميال عنها يدعى الخُداد.
أما المسافة بين عدن والحوطة فلا تتجاوز العشرين ميلًا. اجتزناها بساعتين — حتى البخار يتباطأ، يستشرق في الشرق — ووصلنا إلى العاصمة بخير وسلامة، فرحَّب بنا في المحطة ولي العهد، وأخو السلطان، وغيرهما من القصر، وهم في ملابس تدهشك منها لأول وهلة الألوان الزاهية البهيجة، ثم شكلها الذي يختلف عن ملابس البدو والحضر في اليمن وفي الحجاز. وما أشبه اللحجي في فوطته المخططة التي تصل إلى الركبة وعمامته الطويلة الذؤابة بالإسكتلندي إذا لبس ثوب عشيرته، أي التنورة الملونة والقبعة ذات الريش.
ولكن السلطان أحمد — وهو قائد الجيش — يلبس مثل أخيه السلطان المالك عبد الكريم، إلا أن له شغفًا بالألوان الباهرة. رأيته أول مرة في بنطلون أبيض ضيق حول الساق، وفوقه معطف إلى الركبة إسلامبولي الشكل، إلا أنه من الحرير الأزرق المخطط، يشطره زنار وافر مشدود إلى وسط نحيل، وفي الزنار خنجران هائلان مرصعان بالحجارة الكريمة، وعلى رأسه عمامة صفراء حمراء زرقاء ملفوفة في شكل هرمي — هي الموضة عند أعيان لحج — وطي أضلعه ما يناقض كل ذلك، أي روحٌ عصريةٌ حتى الكفر. سنعود إلى السلطان أحمد بعد أن نقابل سمو أخيه.
ركبنا من المحطة في سيارة أوصلتنا إلى القصر، فخف إلى استقبالنا عند الباب سمو السلطان، وهو يلبس فوق ثيابه الإفرنجية عباءة بنية، وعمامة ملونة هندية، ومعه حاشيته ووزيره الأول السيد علوي الجفري. ثم صعد بنا إلى ردهة الاستقبال في الطابق الأول، وهي رحبة أنيقة جليلة، يدخل إليها نور الشمس في جلباب من التقوى يُلبسه إياه الزجاج الملون في النوافذ — كأنه من كنيسة مسيحية — وتلطِّفه السُّجُف البيضاء المخرمة، كأنها من قصر إنكليزي، إن في هذه القاعة مجلسين إفرنجيًّا وعربيًّا، فرش الأول غربيُّ الشكل إلا أنه من صناعة الهند، تحتل زاوية منه آلة الفونوغراف، وفرش الثاني دواوين عربية تُقطِّعها المساند والوسائد. وهناك بين المجلسين طاولة عليها مجلدات ضخمة هي شرح البخاري، ذاك السفر الجليل المدهش، الفريد في بابه، الممتاز بالشروح الثلاثة للكلمة النبوية، أي شرحُ شرحِ الشرح. ولا يجوز ذكره بغير الإجلال كامل الأسماء، فهو القسْطلاني على صحيح البخاري، والخزرجي على القسطلاني، والإمام النووي على الخزرجي.
– وهو ذا يا صاحب السمو المستر كروس قنصل أميركا في عدن.
فرحب سموه به وأجلسنا — إكرامًا له على ما أظن — في المجلس الأول الرسمي الذي يستقبل فيه ضيوفه الإفرنج. ثم تعطف فأجلسنا كلنا محل الأهل والأحباب على الدواوين العربية التي تبعدنا عن الفونوغراف وتقربنا من البخاري.
– كان قنصل أميركا السابق صديقنا يزورنا من حين إلى حين. ولكم كان له عندنا من الحب والإكرام. قال هذا السلطان، وكنت أنا الترجمان، فسررت بالقنصل لأنه قليل الكلام. شَكَر سموَّه وسكت. فاستلمت أطراف الحديث شاكرًا، ونشرت منها المألوف في السلام والتبجيل، ثم المعروف من ظاهر سياحتنا، فأوقفتني عند هذا الحد كلمة من السيد علوي شوَّقت إليَّ حديثه، وهو لطيف الابتسامة، برَّاق العين، فصيح اللسان، يستأنس به جليسه من مجرَّد النظر إليه. ولكني عرفت أنه الوزير الأكبر، وأنه أهل لذا المقام العالي لأنه مثل القنصل الأميركي قال كلمته وسكت.
– مقاصدكم شريفة يا حضرة الفاضل، وقد عرفناها.
فأضاف السلطان عبد الكريم إلى ذلك كلمة أخرى لطيفة: وسيزيدنا الأستاذ معرفة — إن شاء الله. زيارة مثله لا تنقضي في جلسة واحدة. ثم سألنا عن صحة الملك حسين، فكان دور القسطنطين، الذي أجاب بما يسرُّ المحبين، ويريح بال المعجبين برجل مكة الأكبر. ثم مال سموه إلى القنصل فقال: يجب أن تغضَّ النظر يا حضرة القنصل، ليس عندنا ما يليق بكم ويشرفنا في نظر الأمة الأميركية العظيمة غير حبنا لكم وإخلاصنا.
ترجمت إلى اللغة الإنكليزية هذه الكلمة، وفيها جميل التواضع واللطف، فأدهشني من المستر كروس جوابه الذي تجاوز الكلمتين، قال لا فض فوه: سأنقل كلام سموكم إلى حكومتي، وأحب أن أقول بالأصالة عن نفسي إن في العرب فضائل كثيرة تشرفهم في نظر الأمم الغربية.
هنأته بعدئذ بحسن جوابه وحسن سلوكه. ومن أدرى بإخواني الأميركيين مني؟ لقد كنت أخشى منه سكوتًا يسيء أو كلمة توجب الشرح والتفسير. وهو مثل أكثر الأميركيين لطيف كريم فيما يفعل أكثر منه فيما يقول.
بعد أن شربنا القهوة نهض السلطان، وتقدمنا إلى الجهة الأخرى إلى المجلس العربي قائلًا: هذا بيتكم. ربما أنتم تعبون. وراح تتْبعه حاشيته إلى داخل القصر. فجلسنا نحن الثلاثة وفي كل منا شيء يأبى الكتمان.
– سلطان عربي في ثياب هندية إفرنجية.
– سلطان كريم حكيم.
وقال المستر كروس: سلطان متمدن.
وستدهشك من تمدن هذا السلطان أشياء أخرى كثيرة. هذه مجلة عربية من مصر، وهذه جرائد من القاهرة ومن الأستانة. وهذه في ألواح الفونوغراف أغانٍ مصرية وأناشيد إنكليزية، وهو ذا يا مستر كروس النشيد الوطني الأميركي تسمعكه جوقة لحج العسكرية! سررنا بالنشيد الأميركي؛ لأنه كان من أجمل آيات الترحيب والإكرام. والحق يقال: إن ما من أحد يزور لحج إلا ويعجب بذوق سلطانها الذي تفصح عنه مجالسه، ومائدته، وسياراته، وخيله، وكتبه. إنك لترى أشياء من الشرق والغرب مجتمعة غير متنافرة في قصور لحج.
أما محاسن لحج ومستغرباتها فأكثرها في قصور الأمراء والبساتين، وللسلطان عبد الكريم عناية خاصة بالاثنين. إنك لتجد الشرق والغرب مجتمعين حتى في الأشجار. فهذا التفاح الشامي في جوار العمْب الهندي. ولكن الزراعة — على اهتمام سلاطين لحج وشغفهم بها — لا تزال في طور النشوء. مشينا صباح يوم وسمو السلطان إلى أحد تلك البساتين، فكان أول ما أوقف النظر منا رجال يحفرون بئرًا كما لو كانوا في أيام عاد وثمود. فما المانع من استخدام الآلات البخارية ونفقاتها مثل أجرة العمال إن لم تكن أقل؟! إن أرض لحج صالحة للآبار الارتوازية. وهي مع ما يجري فيها من مياه وادي دُبن تحتاج إلى هذه الآبار؛ لأن نهري الوادي يجفَّان في الصيف، فلا تكفي الأرض مياه الصهاريج.
ها هنا وجدنا النقص في الزراعة، فإن أرض لحج خصبة جدًّا، ويمكن أن يزرع فيها القطن الذي رأينا قليلًا منه في البساتين إذا بُنِيَ سدٌّ في طرفها الشمالي على مرتفع من وادي دُبن، تصب مياهه في الصيف، فيسقي الأرض المزروعة كلها.
– أظن ما تشكوه يا مولاي من صغر ثمر العَمْب ناتجًا عن أمرين: عدم التلقيح، وقلة الماء.
– ولكن عمبنا في لحج على صغره أطيب من عمب الهند.
– هذا السمُر الذي يذكره الشعراء.
فقال رفيقنا الأمير صالح وهو شاعر:
ومنه الشوكي العربي، واللاشوكي الهندي.
– وهذه شجرة تعطي قطنًا أفخر من القطن، ودود الحرير نسميها شجرة «القطن الحريري». هي تشابه في طولها ونحولها شجر الحور، وهذا العُشْر الذي يستخرجون منه البارود.
فقال الأمير صالح: وكان عود الكبريت عند الأقدمين.
وهذا الأَسْل صديق الإبل.
قلت: وهو شبيه السلم.
فقال الأمير الشاعر:
ولكن شاعر لحج وفيلسوفها، الذي لا ينظم ولا يكتب كلمة للبشر، إنما هو السلطان أحمد بن فضل. قال لي ذات ليلة طال فيها السمر وما ذوى غصنه: وما التعصب وما المذاهب كلها؟ بلية الأمم — واللهِ — ونكبة الأوطان. لو كان العرب يعقلون لعلموا أن خلاصهم ها هنا لا ها هنا (وأشار إلى رأسه ثم إلى قلبه). نعم، إن العقل — وأنت يا حضرة الأستاذ أدرى بما قاله شاعر العرب الكبير أبو العلاء المعري — إن العقل مصباح الحقيقة، والحقيقة أساس كل عمل صالح ثابت مفيد سياسيًّا كان أم دينيًّا. أما القلب فغالبًا ضال، هذا الزيدي يغمس ثيابه وجسمه في النيل؛ لظنه أن النيل يقيه البرد. والظن يصبح بالممارسة عقيدة، والعقيدة يثبتها الوهم، أنا جرَّبت النيل لمَّا كنت شابًّا فلم يدفع عني البرد. ولو حكَّم كل امرئ عقله في الأمور لبان الضلال في كثير منها مثل النيل، ولما رأيت هؤلاء الجهال المتنيلين عندنا. وستراهم، سترى خيرات (كثيرًا) منهم غدًا عند الزيود. قد قيل لي: إن الزيود ينيلون أجسامهم وثيابهم حدادًا على الحسين. لا يزالون إلى اليوم يحدُّون على الحسين! والأجدر بنا يا أستاذ أن نحدَّ على العقل في بلادنا وعلى العلم.
أما السلطان أحمد وهو الجندي الفيلسوف، حاد المزاج، شديد اللهجة والبأس، فيحدُّ في قلبه لا في ثيابه، كان يزورنا كل يوم وهو يحمل إلينا ضمة من الورد؛ فينعش النفس منا، كما كانت ألوان ملابسه تنعش البصر، وكما كان حديثه ينعش العقل والآمال، وهو لا يتجاوز الأربعين. له شغف بالعلوم والفنون نادر في تلك الناحية القصيَّة من البلاد العربية. يطالع الجرائد والكتب والمجلات، ويحدثك في سياسة الأمم كما لو كان نزيل القاهرة. وهو من غواة الصيد والتصوير والموسيقى، فيُحسِن العزف على كثير من آلات الطرب، ويدير الجوقة العسكرية التي أسمعتنا النشيد الأميركي. ولكن مهمته المتعددة لا تبعده عن الحقل والبستان، فهو مثل أخيه مُزَارع كبير يحب العمل في الأرض بيده. أما رأيه في المدنية الغربية فهو على شديد نزعته العربية، لا يرى فيها الضرر الذي يتوهَّمه بعض الشرقيين.
– وما ضرنا إذا لبسنا الإفرنجي وكانت عقولنا سليمة ووطنيتنا صادقة؟ إذا كانت قيمتي في هذه العمامة وفي هذه الجنبية فلا كانت الجنبية ولا كانت العمامة ولا كنت أنا.
إن السلطان أحمد فضل هو السلك الكهربائي في لحج. وهناك السلطان الصامت مهدي بن علي ابن عم السلطان الحاكم. وقد يكون صامتًا لأنه ولي العهد الظاهر المؤيد — وقل المقيد — بالسياستين العدنية واللحجية، الإنكليزية والعبدلية. قلت: الظاهر لأن سمو السلطان عبد الكريم، فيما يسعى إليه من الإصلاح الذي تقدم ذكره، يأمل أن يكون ولي العهد ابنه الأمير فضل، وهو في السادسة عشرة من العمر يتلقن العلوم، واللغة الإنكليزية من أساتذة في القصر. اقترحت على السلطان أن يرسل الأمير فضلًا إلى مدرسة في سوريا أو في مصر، فقال: إنه يرغب في ذلك، ولكن الأم لا تصبر على فراق ابنها.
– ولكننا سنحضر إلى لحج — إن شاء الله — أساتذة من مصر وسوريا يعلمون في مدرستنا.
هذا ما قاله لي عندما زرته ثانية بعد رجوعي من اليمن لأهنئه بعيد الأضحى. وقد هنأه يومئذ تلاميذ المدرسة الفضلية بما ألقوه من القصائد والخطب قديمة الأسلوب، عقيمة المعنى. أما كتب التدريس التي أمر المعلمين بأن يطلعوني عليها، فهي مصرية، ومنها سورية، وكلها حديثة؛ فاستبشرت في ذلك، وقلت في كلمة ألقيتها على التلاميذ: إن لحج زاوية اليمن المباركة، وستصبح بفضل سلطانها زاوية العلم والتمدن. هذا إذا أتم ما يقصده من الاستعانة بالأساتذة والأطباء العرب، يجلبهم من سوريا أو من مصر.
إن الحجري أكبر جسمًا وأشد ساعدًا من اللحجي، على أن وجه هذا أدق ملامح من ذاك، وفيه من سيماء الذكاء ما قلما تجده في الحجري النشيط الباسل. أما الثياب فالحجور يستغنون عنها كلها ما عدا الفوطة والعمامة. وقلما تجد لحجيًّا أيًّا كان، ومهما بالغ في اللبس أو العري، لا يحمل خنجرًا من تلك الخناجر الرائعة المفضضة القبضة والنصاب التي تصنع في لحج. ومنها ما يكون نصابها مزدوجًا بشكل اللامين في «الله»، فتظن صاحبه حاملًا خنجرين. ما رأيت في كل من يستغنون عن الثياب في البلاد العربية، ويقربون بسمرتهم إلى السواد من هو أشد بأسًا، وأرهب طلعة، من حجري يلبس عمامة كبيرة منيلة، ويحمل خنجرًا مزدوج النصاب. إنه مع ذلك لتقي.
كنت وسمو السلطان في أحد بساتينه خارج المدينة، فرأيت الحجري يحرث الأرض، ورأيته يصلي وهو واقف على صندوق كبير في الجو فيه ماء للقاطرة حيث تنتهي سكة الحديد. عامل من عمال الشركة يشتغل في تصليح مستودع الماء، فآذنت الشمس بالغروب، فترك عمله، ووقف مكانه يصلي صلاة المغرب، إن ذلك لجميل، وإن دينًا يستوقف العامل في عمله ليذكر الله لأجمل.
بيد أن بعد ساعة رأيت الوجه الآخر من ذا الجمال. عند رجوعنا ذاك اليوم إلى القصر تناولت مجلدًا من صحيح البخاري، وفتحته عرضًا فإذا أنا في باب المسواك والأحاديث النبوية في المسواك، والشروح، وشروح الشروح. أطبقت الكتاب وفتحت جزءًا آخر منه، فإذا بعائشة تحدث عن النبي وعما كان مسلكه في الغسل قبل الجماع وبعده في الليلة الواحدة؛ فخلتني أقرأ مذكرات إحدى الخواتين الفرنسيات.
ولما جاء السلطان أحمد يزورنا تلك الليلة أشرت إلى ما كان من حظي في البخاري، فقال: لو قرأته كله كما نقرأه نحن في شهر رجب لكان حظك أحسن. ثم قال: البخاري يا حضرة الأستاذ مثل صندوق زجاج يجيئنا من أوروبا. صندوق كبير، كبير جدًّا، فيه ست كئوس أو ستة قناديل ملفوفة، مدفونة، في قنطار من القش. هذا هو البخاري.
لست أذكر الآن إذا كانت الكلمة هذه للسلطان أحمد أو للشيخ علي رضا السوري الطرابلسي ناظر الجمارك في السلطنة اللحجية، كلاهما عريق في الحكمة وحرية الفكر والتساهل الديني. إلا أن علي رضا — مثل السلطان مهدي — سكوت لا يحب الظهور. وقلما يعرض فكره في غير مجلس الألفة والاطمئنان. كان من حظي أن أجالسه غير مرة، وإن له ولابن أخيه عبد الغني الرافعي فضلًا عليَّ ببعض المعلومات عن ماضي لحج.
(٧) النواحي التسع المحمية
بدأ الإنكليز عند احتلالهم عدن يعقدون والعشائر عهودًا بسيطة تضمن لهم الهدنة في الأقل ريثما تجيئهم النجدات. وتُدعى هذه العهود عهود صداقة وولاء. أول من عاهدهم من العرب عشيرة العُزيبي التي هي اليوم من عشائر لحج. والمعاهدة هي آية في البساطة والإيجاز، فبعد ذكر أسماء الفريقين تقول:
هذه معاهدة بين الإنكليز والعُزيبي. نحن الآن أصدقاء ونتعهد بالسلم والولاء. قلوبنا وبغياتنا واحدة. الأمان الدائم على عدن وعلينا نتعهد به أمام الله. وإذا أخذ الإنكليز أحدًا من عشائرنا أو أخذنا أحدًا من الإنكليز، فلا يؤذى المأسور أو يهان.
وبعد قليل عقدوا مثل هذه المعاهدة مع اليوافع من المنطقة السفلى من بلادهم، ومع الحواشب وغيرهم، والقاعدة السياسية فيها كلها واحدة: الولاء، ثم العطاء، ثم الاستيلاء. فقد تدرَّجوا من المعاهدة ذات البند الواحد إلى المعاهدات الطويلة، وفيها كلها تجد اليوم المواد المهمة التي تقيد الأمير أو السلطان أو الشيخ بالإنكليز دون سواهم من الأمم. إذ لا يحق له أن يفاوض دولة أخرى، أو يعاهدها، أو يقبل مساعدات مالية أو غير مالية منها بدون معرفة بريطانيا وإجازتها. كما لا يحق له أن يبيع، أو يؤجر، أو يهب، أو يرهن شيئًا من أرضه أو ملكه لغير الحكومة البريطانية. وعليه أن يراعي موجبات السياسة البريطانية.
وإذا أخلَّ بإحدى هذه المواد يقطعون عنه الراتب الذي شرعوا منذ ذاك الحين يخصون به المتعاهدين. كانت هذه الرواتب تافهة في البذاءة تتراوح بين العشرة ريالات والمائة ريال في السنة إلى كل أمير، ثم أخذت تزداد مع المصلحة حتى أصبحت الآن تتراوح بين الخمسين والأربعمائة روبية كل شهر. أما سلطان لحج، وهو — كما تقدم — أكبر المتعاهدين، فمشاهرته تزيد على ثلاثة آلاف روبية.
هذا دور الولاء والعطاء. ولكن الإنكليز كانوا يتدخلون في بعض الأحايين في شئون أصحاب المشاهرات ليصلحوا مثلًا بين صديقين متخاصمين من أصدقائهم، فيورثهم التدخل مسئولية توجب عليهم الاستمرار، فيستمرون مصلحين، ويكتسبون ما لا بد منه من عداء أحد المتخاصمين. يقيمون الحدود بين الفريقين، فينصبون العمد البيضاء الفاصلة، فيجيء من لا يرضى بتدخلهم ظانًّا نفسه مغبونًا فيرفع تلك العمد بل يكسرها، فيقوم جاره الذي رضي بالصلح، صلح الإنكليز، ويدافع عنها، فيعاديه ثانية ويقاتله، ويستنصر عليه أصدقاءه الإنكليز، فيضطرون أن ينصروه بالسياسة والمال والرجال أيضًا ليعززوا في الأقل كلمتهم، ويثبتوا نفوذهم؛ فينتج عن ذلك كله تلك الحماية التي لم تكن — كما يقول بعضهم — من مقاصدهم الأولى.
انتقلنا من دور الولاء إلى دور الحماية، فأصبح الإنكليز حلفاء صديقهم الأمير العربي، والمسئولين عن استقلاله وسلامة ملكه. قد تطول مدة النشوء كما في تاريخ اليوافع مثلًا الذين عاهدوا الإنكليز سنة ١٨٣٩ عهد صداقة، ولم يعقدوا معهم المعاهدة التي أمسوا بموجبها تحت حمايتهم إلا بعد خمس وستين سنة. وكأن النمو السياسي يوجب على الساسة أكثر مما يتعمدونه في البداءة ويرمون إليه، فالإنكليز في عدن لم يقفوا عند حد التدخل لإصلاح ذات البين بين أمير وآخر. بل تجاوزوه إلى التحزب السياسي الذي أشرت إليه. خذ البرهان من هذه العبارة التي تكثر في التقارير الرسمية التي يرفعها المعتمد إلى وزارة المستعمرات:
إن لنا يدًا على فلان في منصبه، فقد نصرناه على من كان من أسرته ينازعه الإمارة.
أما الذين عاهدوهم من العشائر، وساعدوا في تقسيمهم إمارات وسلطنات، وبسطوا الحماية البريطانية عليهم، فهم يقطنون البلاد التي تدعى النواحي التسع المحمية، أي الجنوبية من اليمن الأسفل. وهاك أسماءها، وبعض ما علمته من الثقات عنها.
الصبيحة
نحن الآن في عدن. فإذا نظرنا غربًا منها نرى قسمًا من بلاد الصبيحة التي تمتد على الساحل من رأس عمران حتى باب المندب. والصبيحة عشائر متعددة، منها: العَطيفي، والبرْيمي، يحكمها الشيوخ والعقال حكمًا بدويًّا. وهم مشهورون بالغزو والغدر، يُقدر عدد من يحمل السلاح فيهم بعشرين ألفًا. على أن لا سلطان لهم ولا زعيم كبير ليجمع شملهم أو بالحري شرهم، وليس لمشايخهم وعقالهم مشاهرات معلومة. لكنهم يجيئون إلى عدن كل ثلاثة أشهر مرة، أو يرسلون أقاربهم ليقبضوا الإكراميات التي تتراوح بين الخمسين والمائة روبية، وبعضهم يتناولها بوساطة سلطان لحج.
آل فضل أو الفضلي
وإذا اتَّجَهنا من عدن شرقًا، وتمثلنا أمامنا مائة ميل من الأرض ممتدة على الساحل من حدود العبادلة «لحج» الشرقية عند أم العُمُد إلى حدود العوالق الغربية في المقاطن — والبلدتان على البحر — نحيط بملك آل فضل، الذين هم أقوى العرب وأشدهم حول عدن شرقًا بشمال منها؛ فإن لسلطانهم عبد القادر بن حسين الفضلي عسكرًا من قبيلته الخاصة، وعنده من العشرين إلى الثلاثين ألفًا يحملون السلاح. أما عرب الفضلي فمن البدو، وهم ذوو بأس ومروءة، يسارعون إلى النجدة، ويرغبون دائمًا في القتال.
ويظهر أن السلطان عبد القادر يرغب مثل زميله العبدلي في توسيع ملكه، فقد طلب من الإنكليز سلاحًا ومدافع فلم يلبوا طلبه، والعلائق بينه وبينهم متوترة في هذه الأيام. بيد أنه لا يزال يقبض المشاهرة، وهي أربعمائة روبية، ولا يزالون يرحبون به بتسعة مدافع عندما يشرف عدن.
العوالق
هي جيران آل فضل على الساحل، وبلادهم أكبر النواحي التسع، مساحتها مائة ميل ونيف شرقًا، ومثلها شمالًا. وهي تقسم إلى قسمين: العوالق العليا، والعوالق السفلى. أما الأولى فيحكم اليوم قسمًا منها السلطان صالح بن عبد الله العَولقي، ومركزه في الأنصاب، ويحكم قسمًا آخر شيخ يعادل بل يفوق السلطان صالحًا قوة ونفوذًا، ومركزه يشْبوم. وهناك بلدة اسمها العِرْقة، وميناء هو الحَوْره يحكمهما شيخان مستقلان الواحد عن الآخر، ومستقلان أيضًا عن شيخ يشبوم، وسلطان الأنصاب.
في العوالق العليا آثار حميرية كثيرة ما اكتشف غير اليسير منها، وفيها مشايخ وعلماء يؤثرون المال على الاستقلال، ويعملون في مقابلة ما يتقاضونه من المشاهرات لتوسيع النفوذ البريطاني في بلادهم. بيد أن ليس بينهم وبين عدن غير معاهدة ولاء عقدت سنة ١٩٠٣.
أما العوالق السفلى فأهلها أصدقاء الإنكليز منذ سنة ١٨٥٥ حين عقدوا معهم عهد ولاء على أن يمنع السلطان دخول الرقيق من أفريقيا إلى بلاده، ولكنهم مع صداقتهم للإنكليز واختلاطهم — وهم على ساحل البحر — بالأجانب، فلا يزالون على شيء يروع من الوحشية. وفيهم قبائل لا يعرفون الإسلام، ولم يسمعوا بالنبي محمد. وهم يتزوجون بدون عقد نكاح مثل عرب الجاهلية، وينكحون أخواتهم وزوجات آبائهم، ولا يصومون ولا يصلون، سألت مرة في دار الاعتماد عما إذا كانت السياحة في بلادهم ممكنة فأجابوا: نعم، إذا كانت لا تهمك حياتك.
إن لسلطان العوالق السفلى الحالي أبي بكر بن ناصر مشاهرة صغيرة لا تتجاوز المائة روبية.
أما عدد من يستطيع حمل السلاح في هذه الناحية الكبرى فيقدر بثلاثين أو أربعين ألفًا. ولكن عدد من يستطيعون تجنيدهم لا يتجاوز الثلاثة آلاف.
الواحدي
هم جيران العوالق شرقًا بشمال، عاصمة بلادهم حبان، وميناؤها المعروف بَلحاف، وسلطانها علي بن محسن له مشاهرات، وليس له مدافع تكريم وترحيب؛ ذلك لأن عربانه البدو بخلاف عربان العوالق وأمرائهم، ينفرون من الإنكليز، ويحاولون التفلت من ربقة الحماية التي أوثقوا بها منذ سنين.
والغريب العجيب في هذه الجهة من اليمن الأسفل أن حُبَان، وهي بلدة قديمة ذات ماض موصوف بالعلم والأدب، ويشبوم، وفيها اليوم عدد من العلماء، لا تبعدان خمسين ميلًا عن العوالق السفلى التي لا يزال فيها من العرب من لا يعرفون القرآن والنبي. أما النواحي الأخرى فللإسلام ولسلالة النبي السادة والأشراف مكانة عالية فيها. ولكل قبيلة سيد يسمى منصب هو رئيسهم الروحي، فيأخذ منهم النذور، ويحكم بينهم، ويستغاث به وبكبار أجداده.
العوازل
إذا عدنا من بلاد الواحدي غربًا، فاجتزنا بلاد العوالق عند الخط الرابع عشر شمالًا من خط الاستواء نصل إلى الدُّثيْنة بلاد العوازل البدو، وهي في ملتقى الأودية الثلاثة: رُفوح، وذُرى، ومروان، تربتها خصبة، ورجالها أشداء. كانت الدثينة في الماضي عاصمة التمرد و«ديرة» العصيان، فقد رفض العوازل الحماية الإنكليزية، وحاربوا الجنود الذين صعدوا من عدن إليهم فهزموهم، وردوهم خاسرين. ولكنهم مع ذلك لم يستطيعوا التخلص من النفوذ الأجنبي؛ لأن جيرانهم العوالق أصدقاء الإنكليز وأنصارهم. قيل لي: إن يوم خرجوا على السلطة البريطانية انتقم الإنكليز من المقيمين منهم في عدن فأجلوهم عنها بالسياط.
اليوافع
إذا واصلنا السير غربًا عند الخط الرابع عشر من العرض، وقطعنا وادي الرقوح نمر بالطرف الجنوبي من الجبال البيضاء، وهي بلاد خصبة فيها بضعة أنهار، وأهلها موالون للإنكليز، ثم ندخل في بلاد اليوافع، وفيها — كما يقال — سبعون ألف مقاتل، وعدة «شيخات»، مشيخات مستقلة خلا السلطنتين العليا والسفلى. أما اليوافع السفلى فأكثر أهلها من البدو، وهم منذ سنة ١٨٣٩ أصدقاء الإنكليز مخلصون لهم، ويظهر أن اليوافع ثابتون في العداء ثباتهم في الولاء. فقد كان بينهم وبين جيرانهم آل فضل عداء منذ ١٨٧٣ استمر أكثر من عشرين سنة، ثم بسطت الحكومة البريطانية حمايتها عليهم سنة ١٨٩٥، فأزالت ذلك العداء القديم أو كادت. ولكن سلطان اليوافع السفلى محسن بن علي ناقم على الإنكليز اليوم؛ لأنهم رفضوا ما طلبه من الزيادة في المشاهرة. وهو يبغي فوق ذلك لقبًا يصحبه نيشان ومدافع ترحيب مثل الزملاء والجيران.
أما سلطان اليوافع العليا فضل بن محمد ومركزه الحوطة، فلا علاقة له بالإنكليز ولا فضل لهم عليه، ولا هو يبغي منهم غير البعد والهجران. هؤلاء اليوافع مثل العبادلة أكثر عرب النواحي التسع ثروة وتمدنًا، فيهم من التجار من تتصل تجارتهم بالهند وبالجزائر في المحيط الهندي. وبينهم وبين العبادلة نسب وقرابة. وأهل اليوافع العليا يفاخرون أقرانهم وجيرانهم باستقلالهم كل الاستقلال، فيقولون: لم يدخل ولن يدخل أجنبي إلى بلادنا. أما حكومة عدن فكانت قد عينت في الماضي أحد مشايخ عربان الشعيب ليحافظ على عمود الحدود هناك براتب شهري قدره سبعة ريالات.
العلوي
هم من العشائر التي لم تتمكن حكومة عدن من ضبطهم واستدراجهم إلى الموالين المحميين، فلم يكن بينها وبينهم منذ سنة ١٨٣٩ حتى سنة ١٨٩٥ علائق رسمية، ولكنها كانت تدفع المشاهرات إلى شيخهم بوساطة جارهم إلى الغرب سلطان الحواشب. ثم عقدت معهم معاهدة شبيهة بالمعاهدات التي عقدت مع جيرانهم. أما الحماية أو الولاء أو الصداقة فلا تزال اسمية.
القطيبي
وهم مثل الصبيحة قوم غزاة، كانوا في الماضي يغزون الضالع والعلوي، ويتقاضون القوافل رسومًا، ويقطعون عند الحاجة الطرق، ثم دخلوا في صف المتعاهدين أصحاب المشاهرات، ولكنهم أبوا الحماية، ودار الاعتماد لا تركن إليهم. أما شيخهم الحالي الشيخ محمد صالح الأخرم، شيخ بلاد القطيب والأجعود، فقد قاوم الزيود عندما زحفوا منذ ثلاث سنوات على النواحي التسع، يبغون الاستيلاء عليها كلها، ثم صالحهم؛ لأن دار الاعتماد لم تمده بالمساعدة الحربية والمالية التي كان يطلبها، وصار من عمال الإمام يحيى فخسره الإنكليز. وقد يخسرون بسببه العلويين وغيرهم من المحميين.
الحواشب
العقارب
قبل أن نتقدم شمالًا أعرف القارئ بأقدم السلطنات المستقلة وأصغرها، أي سلطنة العقارب ذات القبيلة الواحدة، والبلد الواحد. العقارب فخذ من العبادلة أعلنوا استقلالهم في العقد السابع من القرن الثامن عشر، أي حين أعلنت الولايات المتحدة الأميركية استقلالها، وهي مثل تلك الولايات لا تزال مستقلة عزيزة، بل هي فريدة في بابها لا زادت عدًّا ولا نقصت، ولا كبرت ولا صغرت، أهلها قانعون بقسمة الجبار فيهم، يجمعون شتاتهم وكلمتهم في بير أحمد مدينتهم الوحيدة، بل بلادهم جمعاء، فيقيمون فيها مطمئنين. وما أشبههم بين الإنكليز والصبيحة والعبادلة بمملكة لوكمسبورغ بين ألمانيا وفرنسا والبلجيك.
الضالع
ينقلنا البحث في هذه الناحية من الجنوب إلى الشمال، ومن سياسة الإنكليز إلى سياسة الإمام؛ لأنها تدخل في منطقة اليمن الأعلى، وهي في الطريق إلى صنعاء شمالًا بغرب من بلاد العلوي، وفيها قبائل متعددة. كان يحكمها الأمير نصر بن شايف الذي اجتمعنا به في لحج يوم كنا هناك؛ لأن الزيود كانوا قد احتلوا الضالع، وأخرجوه منها. ولا عجب إذا استعاد الإمام يحيى هذه المناطق التي كانت سابقًا من ملك أجداده. قد قيل: إن أجداد مشايخ الضالع من المولدين، كان آباؤهم من عبيد أئمة اليمن، ثم استقلوا في طليعة القرن الماضي وأقاموا منهم أميرًا عليهم.
قد احتل الزيود بلاد القطيب والأجعود أيضًا، ووصلوا إلى الجبال البيضاء، فشرعوا ينشرون الدعوة الإمامية، وينصبون حبائل السياسة والاستيلاء شرقًا وجنوبًا حتى بلاد اليوافع، وآل فضل. وقد كان الشيخ محمد الأخرم أول من وقع في حبالهم، أول من اتبع الهدى.
دعاه الزيود إلى الضالع باسم السلم والإمام فلبَّى الدعوة بعد أن خذله الإنكليز كما تقدم. ولما دخل البلد أطلق الزيود من أجله — اقتداءً بحكومة عدن — أربعة مدافع ترحيبًا وإكرامًا، فترنح الشيخ، ورفع الأدعية للحضرة الإمامية بصنعاء، فعينه الإمام أمير الجيش في القطيب والأجعود، واختصه براتب شهري، وبربع العشر من زكاة تلك المقاطعات، وبألف قدح من الذرة، وبأربعمائة جندي من الزيود الأشاوس ليكتسح النواحي العاصية ويُدخلها في طاعة الإمام، ولم يكن الشيخ الأخرم ليقبض من الإنكليز غير مائة روبية كل شهر.
إن حضرة الإمام إذا ثابر على هذه الخطة لمن الفائزين بما يبغيه من الإنكليز؛ فهو يقتدي بهم فيحاربهم في اليمن الأسفل بتلك السياسة التي هي عندهم رأس أسباب السيادة؛ ألا وهي سياسة الولاء والعطاء ثم الاستيلاء، وتراه لا يقصر حتى في الجزاء والإكرام، فيرفع إلى المناصب العالية المشايخ والعقال، ويدفع لهم المشاهرات، ويخصهم فوق ذلك بجزء من الزكاة. أي دهاة الإنكليز، إن عندنا المدافع أيضًا نطلقها مرحبين بإخواننا المسلمين، أبناء أتباعنا الأقدمين.
(٨) لائحة بالمشاهرات وجيوش النواحي المحمية
الراتب الشهري (روبية) | ما يستطيع أن يحشده من الجنود | |
---|---|---|
٣٢٨٠ | ٢٠٠٠ | السلطان عبد الكريم فضل بن علي سلطان لحج. |
٣٦٠ | ١٠٠٠ | السلطان عبد القادر بن حسين الفضلي سلطان شقوه. |
٢٥٠ | ٣٠٠٠ | السلطان صالح بن عبد الله العولقي سلطان العوالق العليا. |
٣٥٠ | الشيخ محسن بن فريد العولقي شيخ العوالق العليا. | |
١٥٠ | الشيخ محسن بن رويس العولقي شيخ العوالق العليا. | |
١٦٠ | ١٠٠٠ | السلطان أبو بكر بن ناصر سلطان العوالق السفلى. |
٢٠٠ | ٣٠٠٠ (بلاد يافع) | السلطان محسن بن علي سلطان بني فاسد. |
٨٠ | السلطان صالح بن عمر سلطان بني ضبي. | |
٨٠ | الشيخ سالم بن صالح بن عاطف جابر شيخ ضبي. | |
١٠٠ | الشيخ أبو بكر علي شيخ الموسطة. | |
٥٠ | الشيخ محمد علي محسن شيخ الموسطة. | |
٨٠ | الشيخ عبد الرحمن المفلحي شيخ المفلحي. | |
٤٠٠ | ١٠٠٠ | السلطان محسن بن علي بن مانع سلطان الحواشب. |
٣٠٠ | ١٠٠٠ | الأمير نصر بن شايف أمير الضالع. |
١ | ٥٠٠ | الشيخ محمد صالح الأخرم شيخ قبيلة القطيب. |
١٠ | ٥٠٠ | الشيخ عبد النبي العلوي شيخ قبيلة صهيب. |
٦٠٤٠ | ١٣٠٠٠ |
ولأصحاب هذه المشاهرات إكراميات أيضًا: يتناولها بعضهم كل ستة أشهر مرة، وبعضهم كل سنة، تتراوح بين الثلاثمائة والألف روبية. وهناك آخرون من المشايخ والعلماء تخصهم عدن بمشاهرات وإكراميات صغيرة.
أما السلطان عوض بن عمر القعيطي سلطان مكلا في حضرموت فيستطيع أن يحشد ألفي جندي، ولكن مشاهرته اسمية، وهي ستون روبية لا غير؛ لأن آل القُعيطي ذوو ثروة كبيرة في حضرموت وفي الهند.